[color=blue]حقيقة المطاوعة !![/ة COLOR] ما المطاوعة (المستقيمون) إلا بشرٌ، يصيبون ويخطئون...، يذكرون وينسون...، يمسهم طائف من الشيطان فيبصرون، تغريهم الدنيا وتغريهم الآخرة أيضاً، يسكنون كما تسكن الريح ثم يهبون مثلما تهبّ، وتجف قلوبهم كما تجف الأرض ثم تهتز من بعد مطر وتربو، ويبطشون على حين نزغة أو غفلة ثم يعودون يطوون المساوئ بالمحاسن، ويغسلون أثر اللطم بالقُبَل...، ولأنهم كذلك تراهم متباينين فيما بينهم، فمنهم من يغضب فينتقم، ومنهم من يصبر ويعفو، منهم من يبتسم ويضحك، ومنهم من يكفهرُّ حتى يحترق، منهم من هو جاد في نفسه وتعامله مع الناس، ومنهم من هو دون ذلك... هم – والحال هذه – مثل آبائنا يخطئون لكننا لا نكرههم، ويسيئون لكننا لا نفكر في الانتقام منهم، ولا يمكن لأحد أن يثور على الآباء كلهم لأنّ أباً من الناس تجرد من أبوته، ولا على الأمهات كلِّهنّ لأن أماً باعت أمومتها، ولا على الأبناء جميعاً لأن ابناَ طائشاً وطأ قلبه بأخمص قدميه وأساء إلى أبويه أو (قبيله)، كل إنسان بما كسب رهين، وكل (هو) هو، وليس كل (هو) هم...، إن التعاطي مع المفرد بصيغة الجمع لا يمكن قبوله إلا على مستوى اللغة، واللغة وحدها !! وإن تعجبوا فمن عجب أن تروا كتابنا الكرام – المبتدئين منهم والمجلّين - يسارعون في حجب اللحظات التي يخضرُّ فيها (المطاوعة) وتمديد لحظات الجدب والعجاف...، يقع (مطوع) ما في خطأ ما – كما يقع كل إنسان - فيسارعون إلى تعميم خطئه (هكذا أكتبها) – فرحاً به - فإذا ب (المطوع) في خطابهم يصبح (مطاوعة)، وإذا بالموقف يصبح سمة، وإذا ب (اللحظة) الزمنية تصبح مرحلة...!! وشيئاً فشيئاً يصير الفرد جيلاً، ثم أجيالاً، ثم (أجاييل)، لحاجة في أنفس هؤلاء تزداد انكشافا كلما ستروها . وأشد ما يعاني منه بعض كتابنا أن ينفى خبر ذلك الخطأ، أو تتم تبرئة ال (مطوع) منه، ومن الأدلة على ذلك موت أحد المواطنين إثر مداهمة (الهيأة) له، فقد شنّ كتابنا الكرام حرباً ضروسا على ال (مطاوعة) بشكل عام، ووصفوهم بأنهم دمويون، ثم حين برأتهم المحكمة انتقلوا إلى وصف (مطاوعة) المحكمة بالمداهنة والمجاراة، ولولا خشية هؤلاء من العقوبة لاتهموا رجال الدولة الكبار بالمداهنة والمجاراة . (المطاوعة) في موازين أولئك مدانون أبداً حتى تثبت براءتهم، وليسوا بريئين حتى تثبت إدانتهم، هذا ما يقوله خطابهم، وما يقولونه هم أيضاً !! وفي هذا السياق رأيت بعض أغيلمة (المطاوعة) يصفُّ في الصفِّ نفسه، فيكتب عنهم كتابة لا تفضي إلى شيء، ولا تحتمل شيئاً، لكنك إن ضربت بعض كلامه ببعض كانت النتيجة إدانة من غير بينة، إلا ما كان من حكي ركيك، لا هو في جنس القص ولا هو في جنس القول، قوامه تسوّل الشهرة، والبحث عن بصيص ضوء تغربل العتمة التي تدثِّره من رأسه إلى قدميه . حين يتراجع أحد (المطاوعة) عن صورته السابقة يصفون رجوعه بأنه انهيار للصحوة، ولا يتورّع بعض الكتبة المبتدئيين عن وصف هذه المرحلة بأنها مرحلة ما بعد الصحوة !! وما عليه من بأس في هذا الزعم الفقير، فهو لا يعرف الصحوة حتى يعرف ما قبلها وما بعدها، ولا يعي مسؤولية العنوان فضلا عن مسؤولية المقالة، وأذكر الآن أن بعض الكتبة فرح بتراجع المد الإسلامي السلفي في البرلمان الكويتي فعد هذا التراجع سقوطا لإسلاميات العروبة، أو إسلاموياتها، وغض الطرف قصدا عن التقدم الذي أحرزه الإسلاميون في (تركيا) بعد سنوات عجاف من السيطرة العلمانية المجخية، والتقدم الذي أحرزه الإسلاميون في البرلمان البحريني، فضلا عن الأرقام المهولة التي يرقمها مؤشر المسلمين الجدد في العالم ! لقد أخذتني خطواتي قبل اثنين وعشرين عاماً إلى حلقة لتحفيظ القرآن في (بريدة) - التي توصف اليوم بالتطرف والغلو – وفيها تعلمت مبادئ القرآن، وتلقيت نصائح وتوجيهات لا حد لها، تصبُّ كلها في مصلحة المجتمع. ثم انتقلت إلى حلقة أخرى في مسجد آخر، وأمضيت فيها سنتين أو أكثر، تعلمت هناك الاعتماد على الذات، ودخلت مع أصدقائي منافسات كثيرة، وما زلت أذكر تلك الصباحات التي كنا نطرزها بالمقالب والنكات، وبالأنشطة والمسابقات . ثم بعد ذلك انتقلت إلى حلقة (الإمام الشافعي) وأمضيت فيها أكثر من سبع سنوات، كانت الأجلّ والأجمل على الإطلاق...، وفي مكتبة تلك الحلقة عانقت أول كتاب، ونظمت أول قصيدة، وألقيت أول خطبة، وشرحت أول حديث، ونشرت أول مقالة، وما زلت حتى ساعتي هذه – وأحسبني سأظل – أغرف مما جمعته من تلك (الأيام)، فالجرأة التي اكتسبتها منها جعلتني أحرق المراحل بالجملة، وأقفز عقبات بقفزة، وما زلت أذكر أن حلقات تحفيظ القرآن كانت هي الدافع الحقيقي لتميز كثير من لداتي في الدراسة، ففي كل حلقة يحظى المتميزون دراسياً بتقدير خاص، ومعاملة استثنائية . في حلقات التحفيظ التي انتميت إليها كان التكريم سيد الموقف، وجزء كبير من مكتبتي المتواضعة كوّنته بعطايا تلك الحلقة وهباتها، ولم يكن ذلك الجزء مقتصراً على الجانب الديني - كما يردد كثيرون - وإنما كان متعدداً، ومتمدداً، بحيث يسمح للأدب أن يجلس ويتحدث، وفي أكثر مكتبات المساجد – التي اطلعت عليها - رفوف خاصة للدواوين الشعرية، والمجموعات القصصية، والأعمال الروائية... وأذكر الآن أن حلقات تحفيظ القرآن قادتني إلى المراكز الصيفية – وهي محضن مهم أيضاً - فعملت نائباً لرائد أسرة، ثم رائداً لأسرة، ثم أميناً للمكتبة، ثم مشرفاً ثقافياً، ولسنتين متتاليتين نائباً لمعسكر كشفي، وبين هذه المهمة وتلك كنت أمارس أعمالا متعددة أفدت منها الكثير والكثير . وأذكر الآن أنّ الابتسامة – بل الضحكة – كانت القاسم المشترك بين أولئك (المطاوعة)، والبطاقة التي بها يعبرون من مكان إلى آخر، وأذكر أن المجال كان واسعاً للفنّ - الذي يُتهم (المطاوعة) اليوم بقتله - فقد أقيمت أعمال مسرحية شائقة، وأعمال إنشادية مثيرة، وكان دوري كرة القدم حديث الساعات كلِّها، لكنّ هذه الأنشطة – رغم أهميتها ودخولها في عملية التقويم – لم تكن طاغية على ما هو أهمّ، ولم تكن مسيطرة على العقول المديرة والمدارة...، وبمجرد أن يرتفع صوت الأذان يسكنُ كلُّ شيء، ولا تتحرك إلا الضمائر . الصحافة – هي الأخرى - نافذة من أهم النوافذ في حلقات تحفيظ القرآن والمراكز الصيفية، ومن خلال صحافة الحلقة والمركز عرفنا ماذا تعني كلمة (زاوية)، وما حدودها، ومن هناك انفتحنا على نقاش حاد مع الرقيب، يوم كان يحذف كلمة أو كلمتين، ومن هناك وعينا مهمات رئيس التحرير، وأقسام العمل الصحفي، وتعلمنا الفرق بين الخبر والتحقيق والمقالة واللقاء، ومن هناك احترفنا بشكل بدائي، فعرفنا كيف نرمّز لنخادع الرقيب، وكيف نلغز لنفتك بالخصوم . وفي حلقات تحفيظ القرآن والمراكز الصيفية تعلمنا التراتبية الإدارية، فكل فرد له حدود يُمنع من تجاوزها، وهناك تعلمنا كيف نسيطر على عواطفنا حين نُهزم ثقافياً، أو رياضياً، أو فنياً، وتعلمنا كذلك كيف نسيطر على عواطفنا حين ننتصر في تلك المجالات وغيرها . ثمة نوافذ كثيرة فتحتها لنا حلقات التحفيظ ومراكز الصيف، فأطلينا منها على مساحات شاسعة لا حد لها، واستنشقنا من خلالها كما كبيراً من الهواء البارد اللطيف، وكل ذلك كان بفضل (المطاوعة)، (المطاوعة) الذين لم تشغلهم أنفسهم عن الآخرين، ولم تذهب بهم كما ذهبت بغيرهم . هؤلاء (المطاوعة) أضحوا اليوم مرتعاً خصباً لكتبة الكلام الرخيص، فمنهم من يكتب عنهم بغير علم لأنه أمضى شطرا كبيرا من حياته على أرصفة الشوارع، ومنهم من يكتب انطلاقاً مما يردده الإعلام والإعلاميون، ومنهم من يكتب انطلاقاً من رد فعل له علاقة بفرد أو أفراد معينين، ومنهم من يكتب ليسوّغ للناس تغيره وانقلابه على وجهه وماضيه، فيتظاهر بالانفتاح من خلال وصفه أولئك بالانغلاق، ويتزيأ بالتفكير من خلال اجتراره كلام فرغ منه الليبراليون أنفسهم منذ خمس سنوات أو أكثر، ولكل ساقط لاقط، ممن علا أو نزل . إنني هنا لا أنفي وجود خطأ ما لدى (المطاوعة) - وفاتحة المقالة تدل على ذلك- لكنه أخطاءهم من قبيل الأخطاء التي نتعرض لها كل يوم في (المساجد)، و(المدارس)، و(الشوارع)، و(البيوت)...إلخ، ولا مسوِّغ البتة لتعميمها، أو استغلالها للتشفي منهم، وهو – ولله الحمد – استغلال بات مكشوفاً للعقلاء حتى من الليبراليين، ولقد فضح بعضه رجل الأمن الأول الأمير نايف بن عبد العزيز في أكثر من تصريح . إنني هنا أرى أن من مكملات التربية دعم حلقات تحفيظ القرآن، والمراكز الصيفية، فهي – من خلال تجربة شخصية – صمام الأمان فكرياً وثقافيا، وطريق سالكة إلى المزج بين الدنيا والآخرة، مزجاً وسطيا لا يطغى فيه طرف على آخر، ثم هما – أي الحلقات والمراكز – معهدان مهمان لتطوير الإنسان، وإعطائه دورات عملية في الإلقاء، والكتابة، والإرادة، والإدارة، بشرط وحيد، هو أن تكون لدى الشاب الرغبة في استثمار ذاته من خلال هذا المجال أو ذاك، ولقد كنت أجد شبابا في المراكز يطرقون الأبواب كلها لبناء ذواتهم، في حين كنت أجد آخرين متقوقعين على أنفسهم، لا يعشقون إلا شرب العصير والتراشق بالبقايا . وأرى أيضاً أن ل (المطاوعة) فضلاً كبيراً على شريحة كبيرة من أبناء وبنات مجتمعنا، اسألوا عنه أسرى (المشافي)، والقابعين خلف أسوار السجون، واسألوا عنه المتعرضين والمتعرضات للابتزاز والاستفزاز، والمصابين بآثار العين والسحر، والمطليين بألوان الحاجة والمسغبة، واسألوا عنه – إن شئتم - (شيباننا) الكبار الكبار وعجائزنا الطيبات الطيبات...، ولن يعرف الناس قدرهم على حقيقته إلا إذا خلت الأرض منهم – ولن تخلو بإذن الله - . إشارة : \" أحبُّ الصالحين ولست منهم لعلي أنْ أنالَ بهم شفاعة \" \" وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة \" خالد بن أحمد الرفاعي كلية اللغة العربية – الرياض [email protected]