عادةً ما تواجهنا في حياتنا العامة ظواهر ومظاهر يعجبنا بعضها فنستحسنها وندعوا إلى تنميتها والمحافظة عليها ونشمئز من بعضها الآخر الذي لا يروق لنا لكنه لم يخرج عن حدود المألوف فلا نملك إلا إنكارها في قلوبنا وحسب . ولكن الحديث يصبح ويمسي ذا شجون عندما تكون الظاهرة التي تواجه مجتمعاتنا ومكوناتها ناراً تحرق الأبيض والأسود وسوسة تنخر لتأكل الحرث والنسل معاً . كظاهرة حمامات الدم الإنسانيّ مثلا والذي أُريق ويُهراق قربانا باسم الدين والعقيدة وهما منها براء .. ظاهرةُ يجدر بنا أن نقف على أعتابها لنستطلع حقائقها ، ونسأل عن أسبابها ؟ ما جنسيتها ؟ وما فصيلة انتمائها ؟ ما لون رايتها ؟ ومن ذا الذي يحملها ؟ متى بدأت ؟ وهل من نهاياتٍ لها ؟ هل هي ظاهرة مرضيّة ضارة تستدعي النقاش والبحث أم إنها ظاهرة صحيّة لا ترتقي إلى مرتبة الخوف والوجل . ثم إن كانت وباءا ومرضا فهل ثمّة لها من ترياقٍ يشفي به الله من ذاق مرارة الدعوة إليها أو لاقى عناء حمل رايتها قصداً كان ذلك أو من غير قصد شريطة أن لا يكون لهذا الدواء أيّة مضاعفات لاحقة ( لا قدر الله ) . أسئلة شائكة متداخلة أزعم أن الإجابة عليها إجمالا أو تفصيلا لا تحويها عشرات المقالات فضلا عن مقال يتيم هنا أو هناك . في غرّةَ شهر الله المحرم لعام 1400 من الهجرة النبوية 1979 ميلادي انطلقت شرارة التجديد على ( حد زعمهم ) وتفجّرت أولى براكين العصيان والإرهاب ( في ظني) وذلك عندما دخل جهيمان يَقْدُم جماعته المؤيدة له المسجدَ الحرام في مكةالمكرمة لأداء صلاة الفجر عبر سيناريو (حمل النعوش) . ولجوا أبواب الحرم زرافاتٍ وأفواجا قد علَت النعوش أكتافهم متجهين إلى حيث تقام الصلاة ليصلوا على أمواتهم بعد الفجر صلاة الجنازة . لكنهم ما إن وصلوا الهدف وانقضت صلاة الفجر حتى كشفوا عن أمواتهم فإذا هي ذخائر حيّة وأسلحة قاتلة . أعلنوها عبر مكبرات الصوت .. أيها الناس نزف إليكم خبر خروج المهدي المنتظر وفراره من أعداء الله ( وأنا لا أدري منهم أعداء الله) واعتصموا جميعهم داخل المسجد الحرام . وفي أثناء تلك المعمعة قام جهيمان ليبايع زوج أخته محمد بن عبدالله ( المهدي المنتظر) بزعمهم ويدعوا كافة المسلمين لمبايعته . وباعث كل تلك الأحداث ورسولها منام رآه أحدهم بأن محمد بن عبدالله هذا هو المهدي المنتظر . توالت الأحداث وتعددت وبعدها قٌتل من قُتل منهم بحد الشرع وأسر من أسر وأفرج عن الدهماء الذين غٌرِّر بهم إلى آخر ذلك . وأنا هنا لست بصدد نقل تفاصيل تلك الحقبة وتداعياتها وإنما عسى أن نؤرخ لبداية هذه الظاهرة الثقيلة فحسب . أصاب الناس بعد تلك الحقبة سِنَةً من لهوٍ وغفلةٍ كما يزعم أحدهم حتى جاء الفتح الصحوي في الثمانينيات على حصان منام لربّما من تلك السِّنة معلنا نهاية قيلولة الشعوب وذلك إبّان حرب السوفييت مع الأفغان. وفي التسعينيات اشتعلت نار أحداث الخليج الأولى والثانية فانطلقت مسيرة المعارضة الصحويّة الداخلية العلنية لتَعْبُر عبر بوابة ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) محرِّمين حينها الاستعانة بقوات أجنبية لصد هجمات العدو والدفاع عن البلد ومخالفين في ذلك فتوى هيئة كبار العلماء المجيزة لتلك الاستعانة . رُفع وقتها بيرق المعارضة باسم إنقاذ الأمة من وَهَنها وذلّها وخضوعها .. لمن ؟ ومن أيّ شيءٍ ؟ لا أدري !! غير إني أدركت لاحقا أن البعض من أقطاب هاتيك المعارضة المستقطِبين قد أصّل لنفسه ولمن حوله نهجا بُنِيَ وشُيِّدَ على حماسة عقل لم يبلغ صاحبه آنذاك سن الأشد والحكمة مما جعله يتبنى أسلوبا تعبويّا تأجيجيّا ما لبث أن (فَرْمَلَ) عندما سجن وسكب دمعة الاعتذار وأغلظ الأيمان على أن لا يعود . وبعضٌ قد خاض بمريديه غمار تيك المعارضة بخطابٍ مجازه نصرة هذا الدين الجريح وحاشاه وحقيقته ( هوس الحصول على النجومية وتصفيق الجماهير والإشارة إليه بالبنان كلما اضطجع أو قام ) . الكل قد نجح حينها بتجييش فئام من الشبيبة ضد أنفسهم وأهليهم قبل أن يصبحوا عبئا على مجتمعهم ودولتهم وذلك من خلال الطرح التعبوي التحريضي الخالي من دسم الإيمان والحكمة والنصح الناضج . إلا إنهم وللأسف قد أخفقوا آخر عهدهم في طمس معالم هذا المنهج الذي أصّلوا لقواعده ورسموا سبله وذلك عندما تخلّوا عنه بعد سنين عجاف وتبرؤا منه تلميحا لا تصريحا إذ لا يزال خطابهم التالد كلمة موت ينطلق منها بعض دمويّي اليوم ومتطرفيه والذين لازالوا تلامذة أوفياء لذلك الفكر التأجيجي باعتراف بعض هؤلاء الدمويين وشهادتهم يتضح ذلك جليا باعتمادهم الأساليب نفسها والخطاب عينه في حربهم العقدية كما أسموها وجلبتهم التكفيرية كما ابتغوها وقاسم كل تلك الأطياف المشترك هو الحماسة الممزوجة بعدم إدراك مغزى النص ومفهومه أو السعي الحثيث خلف مطامع شخصية بحته . ورسول قرارات القوم أجمع ووحي أعمالهم هي الرؤى والمنامات . ألم ترو أنهم بعثوا المهدي المنتظر من مرقده بمنام رآه أحدهم ؟! الذي (لم يصْدق علمه حتى يصدق حلمه) على رأي بعض عجائزنا (الفاهمات) ثم أوما سمعتم آخر مقابلة لتائبهم (العوفي) عندما أشجانا بمناماته الأسطورية ؟! يوم أن رأى النبي عليه الصلاة والسلام يزجره عمّا فعل بحق وطنه وأهله وما قاساه في غفوته عندما نهره عمر رضي الله عنه بدرّته قائلاً : أفي مكة والمدينة ؟! ردّدها مرارا . وصدق من همس في أذني حينها وأنا أشاهد تلك المقابلة قائلا : أوما رأى النبيَّ عليه السلام وعمرَ الفاروق يزجرانه وينهيانه في منامه عندما ابتدأ مشوار الإرهاب والتكفير عن قبيح صنعته ؟! أم تلك هي رُؤى التوبة ومنامات الأوبة تُدَغْدَغ بها المشاعر وتُنسى من أجلها القبائح ؟! . تمتمت بين نفسي ونفسي : آمنت بأن لله في خلقه شئون !! ثم قلت له : ألست معي يا صديقي أنهم نتاج مرحلة فكرية لم تطوَ صفحتها بعد !! ولم نسمع ولو حتى همسة اعتذار صريحة من ربَان سفينتها وطاقمه عمّا زرعوه ولم يحصدوا لأمتهم وأوطانها إلا مثل هذا النتاج وأمثاله !! ثم ألا تقاسمني الرأي بأن وحي كل تلك الفصائل وأطيافها هي الرؤى والمنامات التي بسببها قد أُهلك الحرث والنسل وقُتلت من أجلها روح الحياة ومعناها . وخلاصة القول : أن كل تلك الأحداث ليست إلا حلقات متماسكات جاءتنا على شكل مراحل متتابعة كل مرحلة تنهل من معين سابقتها كما أن كل حقبة تعول لاحقتها . واقعها التخريب والإفساد، وأسبابها الحماسة البغيضة الممزوجة بالفهم الخاطئ للتشريع الرباني أو الوصول لمآرب شخصية على أكتاف أطفال أبرياء . أما مصدر إلهام صانعيها ومنطلق تشريعاتهم فليست إلا المنامات والرؤى وليس غير ذلك . وأرجو أن أكون مصيبا إن قلت أن علاج كل ذلك هو صناعة عقاقيرٍ لمكافحة النوم تكون مزيجا من مكونات أدوية أمراض النرجسيّة وحب الظهور ناهيكم عن تكوينات داء المزاجية الغوغائية والطرطعة الصبيانية علّ أن يكفينا هذا الدواءُ داء القوم فلا نُبْتلى بمناماتهم ورؤاهم التي طالما كدّرت علينا أجواء حياتنا وسمّمت نسيمها مع رجائي أن تكون أسعار تلك الأدوية في متناول الجميع عسى أن تندثر هذه الظواهر وتزول من هذا الوجود إن الله على كل شيء قدير .