شكرا أيها المطر ، لقد صنعت في أرواحنا مالم تفعله عيادات الطب النفسي المتهالكة ، وغسلت همومنا وأرواحنا مالم تفعله حكايات العشق والهيام ، ونظرت بك الوجوه بمالم تستطعه مخابيء الترف والجمال ، فالحمد للرب على نعمة الأرض الجليلة والحمد له على نعم السماء .. استقبل الناس هذا الوفرة بعد جفاف وغبرة دامت سنين طويلة ، ترافقها غبرة النفوس الصلدة ، والأرواح المجندة بجذوع الشجر اليابس من مسالك الحياة الرطبة ، وكأن الفرح بهطولها بحد ذاته فرح بديمومة الحب وماء الحياة أكثر من جريان الأودية والشعاب .. لماذا ؟.. لأن الجفاف كامن في الأرواح قبل أن يطوق العالم من حولنا ؟ ولأن النفوس مشرئبة إلى الأمان والحب وراحة البال والعيش بسلام تدفعه الكرامة اللائقة بالإنسان ، فلطالما أحس غريزيا بأنه محاط بدوائر من التابوهات المحرمة ، ولطالما سيطر شعور مراقب بأنه في مدينة تسكنها العواصف والإقصاءات فرضي بالاستكانة وانتظر الفرج من رب السموات والأرض .. فلا نعجب ممن يلجأون إلى الطبيعة على لفحها وشهابتها ( الشهابة : لون أبيض يصدعه سواد – لسان العرب ، مادة شهب ) طلبا للامتزاج الروحي الذي يشعرون به دون أن يفسرونه ، فمنهم من يشعل النار ويصطلي بها يتنفس عبقها ويراوح أمواج الهواجس ، ومنهم من يبحث عن العشب الأخضر الشحيح يسد غلته ويزيد ناظريه حسنا ، ومنهم من يصحب \" عوده \" ليداعب أوتاره ويكفكف دموع الصبابة وخيبات الحياة .. وقد علم كل أناس مشربهم .. تذكرت الحاجة لتلك التجربة عندما توفي قريب عزيز في حادث وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين وقد اكتسى بحسن الخلق والفضل وسماحة النفس وحسن المعشر والصلاح .. عندها رغبت في اللجوء إلى مسجد ، ورغبت في مسجد وسط بريدة قد عمر من الطين وفرش بالرمل فعثرت عليه وفرحت كما لو عثرت على ضالتي ، فجلست القرفصاء سابحا في بحر لجي من الهموم ولم أصح حتى سمعت المؤذن يقيم للصلاة وقد بان في ثيابه وعثاء السوق فنقر الصلاة كنقر الغراب وفي لحظات سريعة - بعد الصلاة – خرج الجميع عدا واحد بالباب يرمقني بعين العجلة ، فالتفت إليه وقلت : \" لاعليك سأغلق الباب وأطفئ الأنوار \" فرد بلهجة حازمة : \"الأوقاف لاتسمح ..هل أنت مسافر؟ \" ، ونهضت .. فلا أريد مزيدا من الهموم ، ورحت أفكر .. ألم يكن المسجد ملفى لي ولأمثالي ممن يراوحون همومهم ويمارسون ولو \" شيء من العبث الصوفي \" كما يقول شيخنا أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري ؟ وانفرط عقد الهواجس بالتجارب الروحانية والجفاف العاطفي الذي أبقى مدينتنا حجرا صلدا لاينبض بالحياة والحب ! إن الجانب الديني المفترض في قيامه بتضميد جراح الإنسان النفسية بقيت طقوس خالية من النبض الروحي ، فلم أسمع يوما من الأيام أذانا ذا صوت شجي ينادي للصلاة ، ولم أصل في مسجد تغنى إمامه بآيات الذكر الحكيم بصوت مؤثر إلا في رمضان أو ممن يعدون على أصابع اليد الواحدة ، بل للأسف أن من يتغنى بتلاوات المشاهير أصبح نشازا لاترهف الأذان أسماعها له ، وصارت المواعظ و \" الكلمات \" بيانات بكائية وإنذارات مخيفة لاتنفذ إلى القلب ، حتى هرب الشاب إلى الموسيقى والطرب والأفلام والفنون في انفصام رهيب بين الدين والفن ، وسيطر شعار \" إما مع أو ضد\" ، وصار الأطفال يرضعون ويحاربون كل مايرقى بالنفس البشرية إلى درجات السمو الروحي ، وصار الوافد مزايد متبجح بتلك النظرة الراديكالية ، وأصبحنا مصدرون للجفاف ونبض الحياة وصرنا أضحوكة الأقاليم الأخرى شئنا أم أبينا ، فآخر مايهمنا هو المظهر الجمالي ، وصار المهتمون بهذا الجانب مترفون يقتربون من درجة الانحلال والفسق بالنعم ، ولانعجب أن أكثر من يرومون تلك الجوانب هم أرقى الناس نفوسا وأنبلهم أخلاقا .. وكلما رقت قيمنا الروحية كلما ترقت حياتنا بألوانها .. حبيب بن أوج [email protected]