لا يشبهني أحد في هذه الحافلة ؛ عيون ضيقة .. شعور ناعمة جداً.. قامات قصيرة .. وجوه صفراء .. وكلمات غير مفهومة.. بعضهم وقوف والبعض الآخر جالسون في مقاعد خشبية مهترئة.. أما أنا فقد غصت في المقعد الرطب عين على الداخل: داخلي أنا ، والأخرى تدور هناك ، حيث الناس والسيارات والشوارع... المدينة فرن كبير.. أجسادنا تنضح بالعرق ، والملوحة تكسونا ، والأيدي ممسكة بأوراق ناعمة تمسح بين الفينة والأخرى ، أما أنا فقد أعفاني طرف ”شماغي\" من مهمة إخراج المنديل من جيبي... بلدتي الصغيرة ، بل قريتي ليست على هذه الدرجة من السخونة ، ربما المزارع والأشجار تلطف جوها، فيما الزحمة وعوادم السيارات تزيده اشتعالا في هذه المدينة الكبيرة الموحشة. تتوقف الحافلة..تنزل مجموعة وتطلع أخرى في عملية عجيبة تشبه تلاطم الأمواج لكنها نفس الوجوه .. أنا فقط لا أشبههم ، يقال أنهم من الشرق ، وأنهم غير مسلمين، وخياط القرية الوحيد له سحنتهم لكنه يقول أنه مسلم وأن في بلادهم أكثر من أربعمائة ديانة !! وأنا لا أصدق. ليس لي وجهة معينة.. لن أبرح هذا \"الباص\" حتى يتوقف نهائياً في محطته الأخيرة .. قلت في نفسي سأتفرج على هذه المدينة الكبيرة لعلي أطرد شيئاً من الكآبة التي اعترتني هذا النهار بعد مقابلة قريبي عمي كما قيل لي.. ذو النفوذ والمركز الاجتماعي المرموق.. والذي بدأ غريباً هو الآخر .. هو أيضا لا يشبهني .. ترى هل كلهم كذلك!!! أصحاب النفوذ والأغنياء.. لماذا أشعر بالغربة بينهم.. كان يرتدي قميصاً مزركشاً فضفاضاً .. وكان شعر رأسه ناعما ولامعا جدا ووجهه أملس وناعم وقد خلا من الشعر .. كان حليقا على النقيض من والدي ذو اللحية الكثة ، حتى الشارب لا وجود له.. هل هذا عمي أم أنني طرقت باباً آخر.. يتوقف الأتوبيس .. تنزل مجموعة .. تركب أخرى .. أنا لم أغير مكاني مع إحساسي أنني أغرق في بركة ماء .. أبواق السيارات لا تهدأ مع أن الشوارع بدأت بالاتساع ، وأخذت شكلا آخر ، وكأننا دخلنا مدينة أخرى..إنها أكثر نظافة ، وعلى جوانبها بنايات شاهقة ، بعضها ذات واجهات زجاجية ذكرتني بمقولة قديمة ؛ إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي الآخرين بالحجارة ، كنت أضحك دوماً من هذه العبارة وكنت أتهم قائلها بالغباء مستبعداً أن يكون هناك بيوت من زجاج.. ولكنه زمن العجائب .. ترى هل يمتلك عمي إحداها !!!.. ربما أو أكثر ..إنه يسكن فيلا كبيرة أشبه ما تكون بقصر ؛ ذات حديقة ومسبح ، وفيها أربع سيارات واقفة على جانب الداخل من اليمين .. هذا ما رأيته اليوم مع مجموعة من السائقين والخدم والطهاة.. غدا ستستلم الوظيفة .. قالها عمي بثقة وجزم وحزم ، ثم استدرك : أو بعد غد بالكثير.. لكن لا تقلق.. أنت ابن أخي ، والأقربون أولى بالمعروف .. حتى لو تطلب الأمر فصل أحدهم وتعيينك بدلا منه.. وان لم أنفعك اليوم متى أنفعك.. إذا طارت الطيور بأرزاقها.. \"شف وأنا عمك علمتني الحياة الوظيفية أن الكرسي دوّار ، ولا يبقى الجالس عليه على حال ، وأن البقاء عليه مؤقت مهما طالت المدة ، وخيرنا من يستثمره ويوظفه لخدمة أهله وربعه ومستقبله\" خفت .. نعم خفت من ذلك الرجل .. طارت عيناي من الدهشة ، كادت تخرج من حدقتها .. تجمدت الدم في عروقي .. عجزت أن أقول شيئا.. ليته قال سأبحث لك عن وظيفة في مكان آخر، فلست مستعجلا جداً .. أسبوع.. أسبوعان .. شهر.. لا يهم .. أما غداً أو بعد غدٍ وبهذا الأسلوب؟! يقول لدينا في المصلحة موظفون كثيرون على بند الأجور ، ولعدم الصلاحية سنفصل أحدهم ونعينك مكانه !!! هذا الرجل الغريب يحيرني ويفزعني.. هو يقدرني ويحترم والدي ، ولذلك سيخدمني ويفصل آخر قد يكون بحاجة أكثر مني للعمل!!! ألا يمكن يا عمي أن أعمل دون أن يفقد غيري عمله ومصدر رزقه!! عجزت أن أقول له ذلك.. أكتفيت بمشاعر الكراهية التي اجتاحتني في تلك اللحظة ، واتجهت نحو الباب ، هربت منه ،..أطلقت ساقي للريح ، ولم التقط أنفاسي إلا في محطة النقل. المدينة موحشة وصدري ضيق.. والنهار طويل.. وبيت عمي كبير وموحش .. و \"الباص\" يقترب من محطته الرئيسة في رحلة العودة .. عمي قال أنه سينتظرني على العشاء ، وأنا أفكر أن آخذ \"تكسي\" تعيدني إلى قريتي المؤنسة.....