رحم الله فيلسوفنا الكبير زكي نجيب محمود القائل فيما قال: \" سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة السيطرة يفرضها الموتى على الأحياء، وقد يبدو غريباً أن يكون للموتى مثل هذه السيطرة، مع أنه لم يبق لنا منهم إلا صفحات مرقومة صامتة، لا تمسك بيدها صارماً تجلوه في وجوهنا فيفزعنا كما قد يفعل الأحياء من ذوي السلطان، لكن هذا هو الأمر الواقع، الذي في مستطاعنا أن نفسره، وليس في مستطاعنا أن ننكره \" ( تجديد الفكر العربي، دار الشروق، 1978، ص 51). ونضيف إلى قول فيلسوفنا أن الصارم الذي يتحدث عنه لم يعد فقط صارم السلطان، بل أصبح هناك صارماً آخر أكثر حدة هو صارم أولئك الذين يستندون في شرعيتهم إلى ماض يتكئ على قال فلان وتحدث علان من راحلين لم يعودوا بيننا، فيعرفون مشاكلنا ويعيشون في بيئتنا، فيفرضون حقيقتهم، وإن لم تكن في النهاية حقيقة من حقائق هذا الزمان، فيتشظى العقل، وتزل القدم، ويكون الضياع هو المآل. بل أن المسألة أصبحت أبعد غوراً مما قاله زكي نجيب محمود، إذ وبعدما كان السلطان يستخدم المتمسحين بالماضي وشخوصه من الراحلين لفرض حقيقتهم في فرض حقيقته، أصبح هؤلاء، أي المتشرعنين بالماضي، هم من يستخدم صارم السلطان في وجه من حدثته نفسه بالانحراف عن \" جادة الصواب \"، التي لا يعرفها إلا السابقون، ولا يعرف ماذا يقصد السابقون إلا هم. أجل فالموتى هم في النهاية من يحدد لنا كيف نفكر وكيف نسلك وكيف نأكل وكيف نشرب وكيف تكون علاقتنا مع الآخرين، رغم أننا نكرر في أمثالنا بأن \" لكل زمن دولة ورجال \"، أو \" لكل وقت أذان \". ألف عام من الزمان، عرفوها لاحقاً بالعصور المظلمة، توقف فيها الزمن في أوروبا، وكانت فيها أوروبا أسيرة الموتى ومنطقهم، وحبيسة أسلوبهم في التفكير والسلوك، وإن حاد أحد عن ذلك، كان الحرق، والسمل، والسلخ، والموت صبراً، أو على الخابور، والقتل عامة هو المصير، وهو ذات ما كان يحدث في معظم تاريخنا، ويحدث في بعض ديارنا حتى اليوم، وإن كان ذلك باستحياء وخفاء. وكان من الممكن أن يستمر مثل هذا الأمر في ديارنا حتى الساعة، ولكن توافق العالم على حقوق طبيعية للإنسان، وتحول العالم إلى أصغر من قرية صغيرة لم يعد فيها خافية، جعلنا نرتدع قليلاً. ولكن أوروبا تخلصت في النهاية من أسر الماضي وحكم أمواتها، فبهرت العالم بحضارة جديدة، وعقل جديد، وخرجت من عصور العزلة والظلام، إلى عصور السيادة والهيمنة الحضارية قبل السيطرة الاقتصادية والسياسية، والتي ما هي إلا نتيجة انفكاك القيد وتحطم الأغلال. أما نحن، العرب والمسلمين، فلا زلنا في جلنا نعيش عصورنا المظلمة، والتي يشكل تقديس الماضي، المحور الرئيس لهذه العصور. فلا نتحدث عن فكرة إلا ونبحث لها عن سند فيما قال فلان، ولا نسلك سلوكاً إلا إذا قسناه على ما فعل علان، فإن لم نجد سنداً لهذه الفكرة أو ذاك السلوك في قول أو فعل لمرجع سالف، فإن التردد هو المآل، حتى لو كانت الفكرة قادرة على انتشالنا من فجوة من فجوات التخلف، أو كان الفعل قادراً على إبعاد شيء من الأذى عنا. كل ما نفعله هو التغني بأمجاد سالفة، وحضارة بادت، وأزمان ذهبية لم يعد لها وجود. وحتى إذا ما أرادنا الحديث عن نهضة مرتقبة، أو إسهام في صنع حضارة جديدة، كان الماضي هو صورة المستقبل لدينا، وكأننا نريد السير ووجوهنا إلى الوراء ملتفتة. ليس هناك جديد فيما نبتغيه من جديد، بل هو الماضي قابع على عقولنا قبل الأجساد، ونريد مع ذلك أن ننافس في عالم تخلى عن ماضيه ليصنع دنيا جديدة، ولا أدري كيف يكون ذلك؟ فنعم كانت لدينا حضارة بهرنا بها العالم في لحظة من لحظات الزمان، ولسنا الوحيدين في ذلك، فقد سبقنا في ذلك الإغريق والرومان والفرس والصينيين وحضارات أخرى كثيرة سادت ثم بادت، ولكن أن نبقى أسرى تلك الحضارة ومخرجاتها، وخاصة الفكري منها، فإن ذلك هو العائق الذي يقف بيننا وبين الممارسة والمنافسة الحضارية في عالم اليوم. لقد كان لأمم كثيرة ماض زاهر سادوا فيه العالم في لحظة من لحظات الزمان، وأنتجوا حضارات بهرت بقية الأمم، وذلك مثل الإغريق وفلسفتهم ونظمهم السياسية، والرومان وقوانينهم، ولكن هل بقيت تلك الأمم أسيرة ماضيها، وهيمنة أفكار الأموات من جهابذتها؟ هذا هو السؤال الذي في ظني تدور حوله كل إجابة في هذا المجال. فلو بقي الأوروبيون أسرى حضارة الإغريق والرومان ومسيحية العصور الوسطى والقياس المدرسي الصرف، لما أنجزوا قفزتهم الحضارية الحديثة بمخرجاتها الفكرية والمادية التي سادوا بها العالم، بل وتحولت هذه الحضارة إلى حضارة للعالم كله. لو بقوا أسرى مقولات أرسطو وأفلاطون وإقليدس وغيرهم في علوم الطبيعة وما وراء الطبيعة مثلاً، ولا يفعلون شيئاً إلا شرح ما تحتويه كتب أرسطو وأفلاطون من أفكار كانوا يعتبرونها حقائق مطلقة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه. لا شك أنهم يفتخرون بأفلاطون وأرسطو وزينون وأرخميدس وأبيقور وأرسطوفان وسينيكا وغيرهم ممن أثروا تراث الإنسانية قبل الأوروبية بنتاجهم، ولكنهم لم يعودوا أسرى تلك الأفكار، ولم تعد الحقيقة مرتبطة بالضرورة بهم، أو حكراً لهم ولمن يرجعون إليهم. ولا شك أيضاً أن أهل الغرب كانوا قد استلهموا ماضيهم فيما قبل عصور الظلام، ولكنه استلهاماً كان يسعى إلى التجاوز لا إلى التقليد والتشبه، على عكس الحال في تعاملنا مع الماضي. كانوا يستلهمون ماضيهم كحافز وليس كنموذج، وبذلك تجاوزوه، فيما نحن لا زلنا فيه قابعين. كان هنالك نوع من القطيعة المعرفية، وفق مصطلحات فيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشار، مع مثل ذلك الماضي، ولولا تلك القطيعة لما آلوا لما آلوا إليه. أما المأزق الحضاري والتاريخي للعرب والمسلمين بشكل عام، فهو عدم القدرة على الانفكاك من أسر الماضي ورجالاته ونتاجه الفكري خاصة. كل شيء، فكراً كان أو سلوكاً، أصبح لا يكتسب مصداقيته ولا شرعيته إلا إذا قيس بفكرة ماضية أو سلوك ماض، وبذلك انتفي الجديد والبديع، ولم نعد إلا مرددين لمقولات ربما تكون صالحة لعصرها، ولكنها لا تنتمي إلى عصرنا، وتحولنا بالتالي إلى مستهلكين في هذا العالم وباتجاهين: مستهلكون لمنتجات الحضارة المعاصرة في أمورنا المادية، بحيث أصبحنا عالة على عالم اليوم، ومجترون لمقولات ماض مستقر في عقولنا التي أوقفت عند لحظة معينة من لحظات الزمان. نحن، والحالة هذه، بحاجة إلى إعادة التوازن بين ما نمارسه في الحياة اليومية، وبين ما نحمله في عقولنا، وذاك لن يتأتى دون إحداث نوع من القطيعة المعرفية مع ماض كان زاهياً، ولكنه غير قابل لنفخ روح جديدة هي أساس كل فعل حضاري معاصر، والمنافسة في عالم لا يعترف إلا بالمستقبل، والنظر إلى الأمام. هل يعني ذلك ترك الماضي جملة وتفصيلاً؟ الجواب هو نعم ولا في ذات الوقت. فنعم، عندما يتعلق الأمر بالنتاج الفكري لذلك الزمان الذي أصبح \" تراثاً \" ولم يعد فكراً قابلاً للحياة في عالم يموج بأفكار جديدة. ولا من حيث أن الماضي يعيش معنا في كل لحظة من لحظات حياتنا، وما نحن إلا نتاج الماضي بشكل من الأشكال، ولكن أن أكون نتاج هذا الماضي لا يعني أن أكون نسخة عما يحتويه ذلك الماضي، حين يُجمد في لحظة زمنية لا لحظة سواها، أو كما عبر رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عن هذه النقطة وهو يقول: \" إنني فخور بماضي بلادي، ولكنني لا أريد العيش فيه \"، هكذا يفكر العقل هناك، وهكذا ساد العقل هناك، وهكذا انبثق المستقبل هناك. العقل والعمل هما السبيل الوحيد للفوز في عالم يقوم على منطق التنافس، ولا حتميات في التاريخ خارج إطار تضافر العقل والفعل، كما يبشر البعض بمثل هذه الحتميات المستقبلية، في خطاب يستند إلى خطاب ديني والدين منه براء، حين تلوى أعناق بعض النصوص لتنتقل من فضاء النص المحفز للعقل والفعل، إلى فضاء الانتظار المخدر، وفق حتمية لا راد لها، والتاريخ في النهاية ليس قطاراً يسير على قضبان حديدية، كما يقول ألفن توفلر. ولعل أفضل ختام لهذه العجالة هي بالعودة إلى فيلسوفنا الكبير زكي نجيب محمود وهو يقول: \" إني لأقولها صريحة واضحة: إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا..نحن في ذلك أحرار، ولكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين..\" (ص 189). ونضيف هنا إلى ما قاله فيلسوفنا بأننا حتى في هذه المسألة لسنا أحراراً، ففي عالم متعولم بسرعة جلمود صخر حطه السيل من علٍ، لم يبقى لنا إلا خيار أن نعيش عصرنا وننتمي إليه، أو هو الضياع والاندثار، والتاريخ في النهاية لا يرحم المتواكلين والمتقاعسين. تركي الحمد مقالات سابقة ----------------------------------------------------------------------------------------------------------- تعليقات الزوار موسى العجلان قرأت ما سطرت - يا دكتور - والتلذذ سيكون حتى الإتحاف القادم . دمت بخير ابا طارق فاهم اوافقك ياتركي في بعض مما اوردته لكن هل من المعقول ان نترك اسند وهو المغذي الثاني للحياة البشرية لأنه من الماضي؟ اظن ان ذلك مستحيلا بل مستحيلا جدا بريداوي تكتب ببراعة كبيرة وجذابه اتمنى لك التوفيق منى المحمد يقولون في الامثال (اللي ماله اول ماله تالي) ..!! اذا سرنا بما كتبته فيجب ان نفصل التعايش الانساني بين الاجيال ..!! طبعا ذلك غير معقول ابو احمد كلام منطقي فقط ياليت تؤكد ان القران والسنة والقياس والاجتهاد لايمكن ان تكون ماضيا على اعتبار انها اساس الشريعة الاسلامية الجوعي تركي الحمد : منظومة كتابية متكاملة ..اه ...لو سخرها لنصرة الاسلام والمسلمين.. فايز الحربي لماذا نمتطي دابة الغرب ؟؟ لقد كنا بماضينا نفوقهم في كل شيء.. انها الارادة التي كسرتها ايادي ملوثة ..!! الراشد مقال ممتاز ومنطقي فاطمه الماضي هو رجل الخبرة للحياة واهمالة جريمة ايها الكاتب الرائع الجرباء لايمكن ان تسود امة دون ان تتباهى بماضيها ابو فهد وهل تتوقع يا استاذ تركي .. ان سبب تأخرنا هو التمسك بالماضي !! بمعنى آخر .. واقعنا الديني الآن ضعيف جدا ومهلهل اي اننا ابتعدنا عن الماضي .. هل صلح حالنا وتقدمنا وتطورنا ؟ استاذ تركي مهما قلتم وغمزتم .. فإن النصرة للدين ومتبعي الدين والمتمسكين بثوابته .. فالضعف والتخلف ناتج من العباد .. وليس من شريعة رب العباد هدانا الله واياكم لرؤية الحق واتباعه لنرتقي فوق الامم ناصح جميل أن يكون الماضي المقصود هو الاجتهاد إذ من حق من توافرت فيه شروط الاجتهاد في عصرنا أن يجتهد لكن أخشى أن يكون مصدر التشريع هو المقصود إن بعض الظن إثم لا أجزم ولكن أعتقد ابو يزيد أعتقد أن ما ذكرته ليس تفسيرا للواقع الذي تريد ، بل أنت تنقل أفكار الآخرين من الأحياء والأموات ، إّذا أنت تريد أن تقفز بالزمن دون أن تنظر إلى ظروف المجتمعات وتطورها وغاياتها ... لقد أكثرت من نقولات نجيب زكي .. وتركت الشواهد والأدلة والمواقف الشرعية ... تحياتي عبد الكريم وماذا نصنع إذا كان المقال -كله- يتكيء على مقالة فيلسوفنا الكبير (الميت) !! محمد عبد الرحمن البريدي وكأني اقراء فيما بين السطور نقدا للسلفية كفكر ومنهج من حيث تمسكها بالماضي السحيق وابرازه لنا بانه المنقذ لنا عند كل جديد وعند قرع طبول اي مصيبة ..... واحب ان اذكر اباطارق ان لكل الحركات الفكرية بالعالم العربي سواء كانت سلفية ام ليبرالية ام غيرهما تمسك بالماضي لكن كلن على طريقته سلف صالح وثقافةالاخر المنقولة .. ودمت لمن تحب ابو خالد وهل يحكمنا الماضي فعلا ياتركي ؟؟ انظر حولك فنحن تائهون بين ماض وحاضر ومستقبل لاندري اين نحن بالضبط؟؟!! تريد ان ننسف الماضي وهذا امر صعب جدا لما يحتويه من ابجديات اساسية للحياة لانكن مغرورين ومتكبرين ونظن أنفسنا نعرف كيف نعيش دون ان نلتفت لماضينا .. انها مغامرة كبيرة ياتركي لكن الاسلام ثبتنا بعقيدة ليست من الماضي بل هي لكل الازمان عبد العزيز من يحيي في عماد أمتنا وثروة أمتنا هذا الهم ؟ إن المشكلة التي تتوارثها أجيالنا هي كيف نكون كسابقينا من آباء واجداد حتى أصبحت هذه عقدة نعاني منها جميعاً . فكل طموح يقابله ...... ليتنا نجي مثل آبائنا وكل مبادرة جديدة .. يقابلها ماحنب جايين مثل الأولين إلأى متى هذه العقدة التي نعيشها ؟! لنمنح شبابنا الثقة ولو اتختلفوا معنا في طريقة التفكير ولنتعطهم زمام المبادرة ولو أثر على بعض ما اعتدنا عليه في حياتنا وسنرى الطموح والتغيير بين جوانبنا لنحرر الشباب وهذه الثروة العظيمة من القوالب التي عشناها في السابق وسنرى كل شيء يتغير حكيم تركي الحمد ها أنت تردد ما قاله زكي نجيب محمود ألهذه الدرجه مازالت سلطته وتأثيره عليك ألم يعد كلامه ماضيا لا يحسن ترداده أدعو الله بالهداية للجميع عاشق المداد أخي د زكي نجيب محمود مبدع وفيلسوف عصره وقف قبل وفاته مع نفسه وقفة نقد ومحاسبة وأقر بأنه كان ملتفتا عن التراث وهائما بثقافة الآخر ولم يستدرك ذلك إلا في آخر عمره كما ذكر فقال بأنه أصبح يعب من التراث قدر استطاعته هل في تصورك بأنه كا مخطئا أخي كل ما سطرته في مقالك يمكن اختصارة بأسطر بدلا من الإطناب فالفكرة واحدة لماذا نحملها من الألفاظ مالا تحتمل ثم أن ذلك مدعاة للملل تحياتي محمد عبد الرحمن قبل أن نحكم على المقال ليت كاتبنا يسرد لنا أمثلة مما يقصد !!! وأدعو الله أن يعامله بمقتضى قصده فهد بن محمد التويجري اسأل الله عز وجل ان يربط حاضرنا بماضينا ويمتد لمستقبلنا وصدق الله العظيم ورسوله الكريم وكذب الهراطقة والفلاسفة صافي النية مقال جدا رائع يا كاتبنا العزيز ولكن دعنا نقف ولو للحظه واحدة ونتذكر مواقف الأمم السابق وما تركوه لنا دون الاستمتاع به لنستمتع به نحن لا مستقبل لأمه بلا ماضي حتى ولو كان أسود..!!