(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ِإنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). في الآية الكريمة أمر من الله عز وجل بالاستمتاع بالطيبات، مما أحله الله في حدود دائرة القصد والاعتدال، ويكون طيبا غير ضار بالأبدان والعقول، وحذر من اتباع خطوات الشيطان، قال قتادة: كل معصية هي من خطوات الشيطان. وجاء في الحديث النبوي " كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ ". وهي قاعدة شرعية مهمة تعالج حياة الناس وتضبط معاشهم، وضرورات حياتهم، فالإسلام دين شمولي وموسوعي، يوجه المسلم في كل شؤون حياته، ويهتم بجميع أموره. هذا الدين العظيم يعتني بحاجات الروح والجسد، ويوازن بينهما حتى لا يطغى أحدهما على الآخر، فتختل حياة المسلم، قال الموفق عبد اللطيف البغدادي "هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس". ولو تأملنا الحديث بنظرة تربوية معاصرة، نجد أن الأكل والشرب واللباس من أعظم اهتمامات الناس اليوم، بل من أكبر استهلاكهم، وأغلب ما يستحوذ على تفكير أبناء الأمة – إلا من رحم – يدور حول: ماذا يأكلون ويشربون صباحاً ومساء؟ وماذا يلبسون في كل مناسبة ومحفل؟ لذا كان من ذكاء أحد السلف وصيته لغلامه: يا غلام: لا يكن همك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح، وما تجمع، كل هذا هم النفس والطبع فأين هم القلب؟ همُّك ما أهمَك، فليكن همك ربك عزوجل وما عنده. وعندما ينشغل أبناء الأمة بمأكلهم ومشربهم وملبسهم، ويصرفون المبالغ الطائلة لتلبية هذه الرغبات التي تزداد ولا تُشبع، وينصرفون عن بناء العقول وغذاء الأرواح، بلباس الأجساد وشبع البطون، فحينها نرى أجسادا بلا عقول وعقولا بلا فهم؛ لذا جاء التوجيه النبوي متوازنا وشاملا لحياة كريمة وعيشة هنية. كما جاء الأمر ضابطاً ومحترزاً (في غير إسراف ولا مخيلة) بلا إفراط ولا تفريط، وبلا مباهاة ولا كبرياء، ونفي هاتين الصفتين الذميمتين (الإسراف والخيلاء) لضررهما البالغ وأثرهما الواضح على النفس والجسد، فالإسراف في الأكل والشرب يتخم الجسد ويثقل النفس فيضعف العمل ويقل الإنتاج، والكبر والخيلاء سبب لمقت الله ولسلب النعم. وتطرق الحديث للإسراف في اللباس، وهو تجاوز الحد في الإنفاق، وتجاوز الحد في المشروع، وبمناسبة حلول موسم الأفراح والعيد، ما أحوجنا للتذكير بهذا الحديث، والانضباط بما فيه، وتعظم مسئولية أولياء الأمور في ضبط هذه الحاجات، وتقدير مصروفاتها، بدون تقتير ولا إسراف، وما يحصل من تجاوزات في اللباس من تعرى وتكلف، يخالف التوازن المأمور به شرعا، ويناقض الحياء المغروس فطرة، وهو نذير شؤم وبداية هلاك، فليس من شكر النعم اتباع خطوات الشيطان والإعراض عن هدي الشرع، والوقوع في المحظور. فالأفراح نعمة والحياء من الإيمان والاعتدال مطلب، فاشكروا النعم برضى المنعم، وأحيوا الفضائل باتباع المكارم واجتباب المهالك، فقد حذر الله عز وجل من ظهور الفساد في الأرض فقال تعالى ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾، ومن أعظم الفساد السرف في الإنفاق والكبر والخيلاء، والمباهاة في الأفراح والمناسبات وابتغاء رضى الناس، نسأل الله السلامة والعافية. فاللهم هيأ لهذه الأمة رشدها وأعز أمرها، ويسر لها أسباب الهداية ومسالك السعادة. د. أميرة بنت علي الصاعدي المشرفة العامة على مركز إسعاد