اللغة هويّة، واللغة وطن، واللغة دين، هكذا ترى الشعوبُ لغاتها وهكذا تؤمن الأمم بقيمة لسانها. ومهما كان اللسان عظيماً أو دون ذلك، فإن كلّ أمّة ترى في لسانها محاسنها وشخصيّتها وانتماءها. واللغة العربيّة نراها نحن غاية في العظمة، لما لها من صلة بديننا وكتابنا الكريم، ولكنّ الذي يُنمّي من هذا الشعور هو ما للغتنا العربيّة مِن طاقات تزيد على كونها مجرّد وسيلة اتصال بين الأفراد، أو كونها لغة شاعريّة جمالية المبنى، رشيقة المعنى. فاللغة العربيّة لها من الإمكانات ما يميّزها في أصواتها، وفي مفرداتها، وفي عباراتها، ومعجمها الثريّ وفي أبنيتها الاشتقاقيّة التي تجعل مفرداتها حقولاً طبيعيّة هائلة الإنتاج تُمكّن الناطقين بها من مجاراة الامتداد الحضاريّ الذي تواجهه في مجال التبادل المعرفيّ، والمثاقفات، والتواصل الحضاريّ. لقد استطاعت اللغات ذات الطاقات، التي هي دون اللغة العربيّة، أن تستوعب العلوم الحضاريّة في مختلف فروع المعرفة، فضلاً عن العلوم الإنسانيّة، حيث عملت الجامعات على نقل العلوم والنظريّات، والكشوف العلميّة، والبحوث التجريبيّة، والدراسات التطبيقيّة والنظريّة إلى ميدان لسانها الخاصّ، فترجمت العلوم، ويسّرتها بلسانها القوميّ، وكوّنت بها مناهج الجامعات ومقرراتها الدراسيّة، ثم أبدعت تلك الدول في منافسة البحث العلميّ في مصادره الأصليّة. وفي دول جنوب آسيا، وشرقها أمثلة لتلك الإنجازات الحضاريّة التي نهضت بها لغاتهم الخاصّة على فقرها اللفظيّ وشحّها المنطقيّ. إن تطلّعاتنا التي نستشرفها من خلال رؤية 2030، تقتضي أن تكون لغتنا العظيمة، ذات حضور فاعل، لما في ذلك من تحقيق لقيم رؤيتنا الوطنيّة، واعتزاز بهويّتنا العربيّة الإسلاميّة، وبناء لشخصيّة أبناء الوطن، الشخصيّة التي تنتمي للغتها، وتعتزّ بها، وتعيشها عقلاً وتفكيراً وسلوكاً، وندعم ثقافتنا الأصيلة وقيمنا الإسلاميّة الراسخة، على قدر عمقنا الإسلاميّ العربيّ. إنّ رؤية 2030 تحتّم علينا أن نعرّب مناهج كليات الطب، والعلوم الطبيعيّة، والتطبيقيّة، والهندسيّة، ليدرس الطالب هذه العلوم في اللغة التي تكوّن بها عقله المعرفيّ منذ صغره في المدرسة وفي المنزل، وفي البيئة الاجتماعيّة، وترسّخت بها ملكاته المعرفيّة، ومواهبه الخلّاقة، وأبعاده النفسيّة والسلوكيّة. وهذه المناحي الفاعلة في التعلّم يفتقدها الطالب، أو يقلّ أثرها حين يدرس العلم بلغة غير لغته الأمّ، وإنّ غياب اللغة الأمّ، اللغة الوطنيّة عن ميدان التكوين المعرفي، والبحث العلميّ، والسباق الحضاريّ؛ لهو إهدار لثروة وطنيّة بالغة الأهميّة عظيمة الأثر، ولا أظنّ منصفا من علماء اللسان يشكّ في أن اللغة العربيّة لغة علم، ولغة عقل، ولغة منطق قويم، وثروة إنسانيّة للمتكلّمين بها. وبعيداً عن العاطفة وألفاظها البرّاقة، فإنّه ليس الدافع لنا هو ولاؤنا للغتنا فحسب، فهو وإن كان في الحقيقة دافعاً جميلاً، وغرضاً نبيلاً، إلّا أنّ هناك أمراً بالغ الأهمية، له جدوى عمليّة، وهو أن اللغة العربيّة قادرة على نقل العلم بصورة أفضل، ولها طاقة فريدة في تيسير المعرفة، وتقريب منطقها، وتسهيل صوريّتها، وتبسيط المدركات العقليّة الأوليّة والثانويّة، والمعقدّة، بما تمتلكه من خصائص في نظامها الشامل الذي يوافق بواطن العقل، ويسير على منواله المستقيم. واليوم نحن على مداخل نقلة كبيرة في التنمية الشاملة، ولغتنا تحضر بقوّة في المحاور الثلاثة لرؤيتنا الوطنيّة، وفي تعريب العلوم والمعارف بما يجعل تحقيق هذه الرؤية أكثر إيجابيّة وأقرب إلى النجاح. لذلك فإنّ العمل المؤسسيّ الذي ينبغي أن تتبنّاه وزارة التعليم، ومراكز البحث العلميّ؛ هو الاتجاه لتعريب مناهج التعليم العالي التي تدرّس بلغة أجنبية، وأحسب هذا سيكون إنجازاً حضاريًّا، ونقلة نوعيَّة يمكّننا من تحقيق أهداف رؤيتنا.