في زحمة الحياة وكثرة شواغلها، تفضل المولى جلَّ في علاه بمواسم للخيرات تتضاعف فيها الأجور ليزداد المؤمنون إيماناً، ويتنافس فيها المحسنون إلى مرضاة ربهم في شهر اصطفاه الله على سائر الشهور؛ فيه ليلة "خير من ألف شهر" أي خير من (83) سنة و(4) أشهر، قال المفسرون: عمل صالح في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة قدر. وسميت بليلة القدر؛ لأنها تقدّر فيها الآجال، والأرزاق، والأعمال. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تلك الليلة أكثر من الحصى"، وقد قال سبحانه: "تنزل الملائكة والروح فيها"، والملائكة لا تنزل إلا بالخير والبركة. قال الرازي: اعلم أن من أحياها فكأنما عبدالله نيفاً وثمانين سنة، ومن أحياها كل سنة، فكأنما رزق أعماراً كثيرة. * ولذا يحرص الصالحون على إحياء ليالي العشر المباركة في القربات والطاعات رجاء أن يدركوا فضل هذه الليلة. ومن حكمة الله – سبحانه وتعالى – أنه أخفى العلم بوقتها عن عباده؛ كي يجتهدوا في إحياء العشر كلها، فضلاً منه ونعمة لئلا يفتروا. وقد رأيت نموذجاً لا أنساه ممن شمَّر لاغتنام موسم الخيرات، وهي أختنا (أماني محمد) التي جمعت من السجايا الرفيعة ما تغبط عليه، صلاحاً وتقى مع حسن خلق.. ابتسامة لا تفارق محياها.. رأيتها العام الماضي في جامع الحي؛ – إن رأيت المصلين فهي في صفهم. – وإن رأيت التالين للقرآن فهي منهم. – وإن رأيت حلقة الحفظ في الجامع تلك الليالي فهي على مائدة القرآن. – وإن رأيت حلقة علم في الجامع فهي معهم. – وإن رأيت من يعين المحتاجة بخدمة فهي الباذلة لها بنفس طيبة. تأتي إلى الجامع الساعة (الخامسة) عصراً – بعد أن تصنع طعام الإفطار لزوجها وأولادها – الذين هم بالتالي يأتون إلى الجامع بعد الإفطار – فتفطر في الجامع وتصلي التراويح فصلاة القيام فالسحور، ولا تخرج إلا بعد أداء صلاة الإشراق قرابة الساعة (السادسة) صباحاً.. يعني أنها تمكث أيام العشر المباركة في الجامع قرابة الثلاث عشرة ساعة! ثم ماذا؟ صُلِّي عليها قُبيل رمضان هذا العام بشهرين تقريباً.. الله أكبر! يا لها من موعظة! * ما علمت أماني – رحمها الله – في ليالي العشر المباركة التي أحيتها بالطاعات والقربات أن اسمها قد خُط في الغيب في عداد الأموات.. قال ابن عباس: يُكتب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت وحياة حتى يكتب يحج فلان ويحج فلان. * ما علمتْ – رحمها الله – أنّ شهر رمضان الماضي هو آخر شهر تصومه! * ما علمتْ – رحمها الله – أنّ رحيلها قد قرُب! * ما علمتْ – رحمها الله – أنها ستترك رسالة للأحياء: (أيُّها الأحياء: استعدوا) فلربما تكونون قريباً موعظة لغيركم كما كنتُ موعظة لكم. * ما زلت أحتفظ برقم هاتفها، وآلمني ما كتبه ابنها في (وسيلة التواصل الاجتماعي) :"ذهبت للقاء ربها، فاللهم ارحمها". وبعد: أيُّها الأحياء استعدوا، وبادروا للطاعات، واسلكوا طرق الخيرات، فلا تدرون بأي طريق تدخلون به الجنة.. وما أصدق من قال: فبادر إذن ما دام في العمر فسحة وعُذرك مقبول وصرفك قيّم وسِر مسرعاً فالسيل خلفك مسرع وهيهات ما منه مفرٌ ومهزمُ فهُنّ المنايا أيّ وادٍ نزلنه عليها القدوم أو عليك ستقدم نسأل الله أن يرحم موتانا، وأن يعيننا على القيام بالصالحات قبل الفوات.. والحمد لله رب العالمين.