هل الأغاني حلال أم حرام؟ هل كشف الوجه حلال أم حرام؟ ماذا عن قيادة المرأة للسيارة؟ وحكم الاختلاط؟ و…. و….. و……. ، مستجدات لا تنتهي، يعقبها عشرات المسائل وعشرات الفتاوى وملايين النقاشات، تجدها تعتلي قائمة الترند في وسوم تويتر، أو تتصدر بعض المواقع المعنية بطرح نقاشات سناب شات وأمثالها من الشبكات تارة أخرى. في كل مرة أترقب انتشار فتوى في الشبكات الاجتماعية، وتعاطي المجتمع معها بكافة شرائحه، أتذكر تلك الليالي التي سهرتها وأنا أطوي الساعات في قراءة نقاش محتدم بين طرفين، طرف مؤيد للإعجاز العلمي ولتوظيفه الدعوي وطرف آخر يرفض توظيف الإعجاز، ويشرح تخوفه بأن هذا القرآن العظيم إنما أُنزل لينظم حياة الناس تعضده في ذلك السنة المطهرة، وأن الإعجاز الذي يجنح في معظمه للعلم المادي قد ينال من عظمة هذا الدين، ويغيب دوره في تنظيم علاقة الشخص الروحية مع ربه، وعلاقته النفسية مع نفسه، وعلاقته الاجتماعية مع أسرته ومجتمعه، ورغم أن الإعجاز يبقى له مكانته في الدعوة إلى الله بالذات لغير المسلمين، إلا أن تلك الحجة التي عرضها المعترضون أخذت بلبي واستوطنت وجداني، نعم هذه هي عظمة الدين التي يجب أن نحميها من المؤثرات المحيطة بل وحتى من أنفسنا. ومع استشعار عظمة هذا الدين إلا أنك حينما ترى كيف يتم التعاطي مع الأحكام الشرعية في الشبكات الاجتماعية، وكيف يتم تنزيلها على الواقع كفتاوى تعالج تفاصيل تمس حياة الناس تشعر بخيبة أمل، وألم شديد، ليس لأن العوام من الناس اتخذوا الدين كلأً مباحا فقط، بل لأن حتى أهل التخصص من الشرعيين تركوا لهذه الشبكات أن تقولبهم وتؤثر على تصوراتهم وتعطل دورهم الرئيس، في بث العلم الصحيح، وتجلية عظمة هذا الدين في تنظيم حياة الناس. الشبكات الاجتماعية نعمة عظيمة، أتاحت لنا منابر لمن لا منبر له، وكانت صوتاً للحناجر التي خنقت زمناً، ولا أقل من توظيفها لتوصيل العلوم ونفع الناس، بما يتسق مع طبيعتها ويراعي سلبياتها، وعلى قائمة هذه العلوم العلم الشرعي الذي يحصن الناس من الفتن، ويجعل المناعة المجتمعية تجاه الفتن على قواعد راسخة، لا تغلبها مؤثرات، ولا ينال منها فتن، ولا يهدمها عدو. ثمة إشكالات تنال من تجلية عظمة هذا الدين في الشبكات الاجتماعية، وتعيده لدوره الرئيس وهو تنظيم حياة الناس، لا تشتيتهم وتفريق الصف كما هو الواقع المشاهد اليوم، وسأحاول أعرضها بعضها برؤية إعلامية على عجالة ولعل المتخصصين الشرعيين يعرضونها بالرؤية الشرعية في مقالات أخرى ويزودوني بالروابط لنشرها، لتكتمل الصورة. المؤثر الذي يلوح في الأفق دائماً هو (خطر التسطيح)، وهذا الخطر عام في جميع النقاشات التي ترتبط بقضايا هامة، ويزداد خطره فيما يتعلق بالنقاشات ذات الصبغة الشرعية؛ لأن التسطيح في مثل هذه الأمور قد يكون بوابة مشرعة للشبهات، وخاصة مع وجود من يسعى للتشكيك في الدين من أعدائه، ويمكننا اختصار هذه الإشكالية في ثلاثة محاور أوردها الكاتب السياسي الشهير (نعومي تشومسكي) في حديثه عن تويتر، أولها أنه: (يسهل تحويل أهم القضايا والأفكار في تويتر إلى أشياء تافهة!)، وثانيها: (أن أي قضية تحتاج إلى أن تطرح من زوايا متعددة وتويتر يجعل الطرح ناقصاً والحجج مبتورة)، وثالثها أن تويتر يتيح (التركيز على المبدأ الرئيس والجدل حوله ويتجاهل الآراء التفصيلية المؤثرة في النتيجة)، وهذه الثلاث يقع فيها المتخصصون الشرعيون أنفسهم، فكيف نلوم الشرائح الأخرى؟ أما كيف نحتوي هذه الإشكالية وهذا المؤثر، فيكون بمراعاة هذه الإشكالية بالتفكير الناقد من المتلقي، أما المرسل – وهو المتخصص الشرعي هنا – فيكون بتوظيف مسار (توصيل العلوم) والذي يدرس في بعض الدول، ويقوم على ركائز منها تبسيط المعلومة، والاختصار اللغوي غير المخل، ولا يشترط أن يقوم المتخصص بذلك، بل يمكنه الاستعانة بمتخصص في الصياغة يساعده على إيجاز فكرته بما لا يخل بالطرح العلمي فيها. ويليها المؤثر الثاني هو (التضخيم)، يبدو الأمر معتاداً بالتناول، ويعظم بالتداول، وهذا من الخطورة بمكان؛ إذ إن مقياس الأهمية يكون بالانتشار وليس بالقضية ذاتها، ومن ذلك بعض الفتاوى الشاذة التي تنتشر، حيث يتلقاها بعض الشرعيين بردود مبالغ فيها وفيها انفعال كبير بل وشطط يصل إلى الشخصنة أحياناً، فيتعاطف الناس مع صاحب الفتوى المجتهد المخطئ وقد يدفعهم لذلك للانتصار لقوله، وندخل في دوامة من ردود أفعال مضخمة تطرح الحق جانباً وتتسيد فيها الأهواء، وتنتهك فيها حدود الله بالقذف والتشكيك في العقائد والذمم. أما المؤثر الثالث فهو (التوظيف الإعلامي لعنصر الخوف في الرسالة الإعلامية)، وهو متعلق بما سبق من علاقة التضخيم والانتشار على الفتوى؛ إذ إن الشبكات الاجتماعية تبقى ذات طابع إعلامي وما يدركه أصحاب الصنعة الإعلامية أن تضمين الأخبار لما يخافه الناس يجعلها أدعى للانتشار، فكيف إذا ما اشتملت على الخوف من الله، وبتبسيط أكثر فإن فتاوى التحريم التي تتضمن تخويف الناس من إغضاب الله جل في علاه، هي الأكثر انتشاراً في الشبكات، بعكس الفتاوى التي تعرض المسألة من جميع جوانبها، فإنه تحتاج لمجهود أكبر لتنتشر، وهذا يدخل الناس لدائرة مربكة في النقاش؛ إذ إن الخوف يجعل المؤمن بهذه الفتوى يدافع عن الفتوى وقد يهاجم من يختلف معه ويعتبره متتبعاً للرخص أو يميع الدين، بل وتبدأ رحلة احتجاج المقلد على المقلد بقول شيخه، مع تغييب للنص أو تعريض النصوص للانتقائية بما يتسق مع هوى الشخص لا مع حقيقة المسألة، وتعالج هذه الإشكالية بالحرص على نشر الفتاوى التي ترتهن للنص وتحقق الوسطية بأكبر جهد ممكن. أما المؤثر الرابع فهو التأطير الإعلامي، وهذا له سطوة لا يدركها الكثيرون، فتجد الشخص لا يتابع إلا مجموعة ممن يتفقون مع رؤاه وتحليلاته، فحينما يكون هناك مستجدات ويتابع أطروحات قرنائه في القضية، يدخل في حالة التبني اللاواعي لآرائهم مع أنه لم يمتلك تصوراً كاملاً عن الموضوع، ويطرح عدة رؤى لا تمس للقضية بصلة أو تضخم جانباً منها وتتجاهل الآخر، وهذا يجعل الناس تفقد احترامها لصاحب الرؤية الشرعية؛ لأنها تشعر أنه غير مستعد لبذل مزيد جهد في بحث المسألة وطرح رؤاه حولها، وتعالج هذه الإشكالية بأن ينوع الشخص من مصادر تلقيه للمستجدات ليحيط بأطرافها. المؤثر الخامس وهو الأخير من البعض الذي ارتأيت طرحه هو التسارع والانفلات، وهذا يرتبط كثيراً بآفة الاستعجال؛ إذ إن طبيعة الشبكات الاجتماعية هي الآنية والتي تجعل الشخص في ماراثون تفكير منهك، وإذا ما أضفنا له ما يحدث من تناوش التيارات المختلفة، فقل على الطرح القيمي السلام، وما وقوع عدد من الشرعيين في فخ الشخصنة لمن يخالفهم في بعض المسائل – ولو كان مخطئاً – إلا دلالة واضحة، فتجد تصنيفهم له بنزع عنه لباس العالم ليلبسوه لباس الواعظ تارة، وتجد اتهاماً له في نواياه بأنه طرح المسألة الفلانية في التوقيت الفلاني لغايات خاضعة لمؤامرة ما، وتجد استقواء بالسلطة لإسكاته، وغيرها مما لا يقبله عقل من أطروحات تمخضت عن صراعات جعلت الشخص في حالة احتقان غير منتهية، وأثرت على اتباع الهدي النبوي في التعامل مع المخالف واحتوائه وتبيين الحق للناس بالنصوص الشرعية الواضحة البينة وكشف الشبهات وردها. آخر السطور، إننا نعول على العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وطلاب العلم من المختصين الشرعيين وغيرهم، بتوظيف الشبكات الاجتماعية في ما ينفع الناس، ويجلي عظمة هذا الدين، ويعيدنا للمجتمع النبوي الذي تجلت الأحكام الشرعية في تفاصيل حياته اليومية، فنهضت به وجعلته نواة أمة تؤثر لا تتأثر، وتقود.. لا تقاد. ——————– [email protected]