في 13 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، نشرت صحيفة النيويورك تايمز رسالة إلى محررها من كارول ديلاني، أستاذة الأنثروبولوجيا المتقاعدة الفخرية (professor emerita) بجامعة ستانفورد، تعلق فيها على خبر نشرته الصحيفة عن قرار رئيس الوزراء التركي، رجب طيب إردوغان، رفع الحظر عن غطاء الرأس، والذي جاء ضمن حزمة إصلاحية أعلن عنها في 30 أيلول/ سبتمبر. قالت ديلاني إن قرار إردوغان «يجب ألا يُنظر إليه بوصفه علامة للديموقراطية، بل بوصفه خطوة غادرة أخرى نحو الدولة الإسلامية التي يتوق إليها (إردوغان) في مواجهة الجمهورية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك». وتضيف ديلاني محذرة: «لا تنسوا أن إردوغان هو الرجل الذي قال إن «الديموقراطية كالقطار الكهربائي في المدن (streetcar)؛ عندما تصل إلى محطتك، تنزل. هذه الخطوة تضعف، أكثر من كونها تعزز، مساواة الحقوق للنساء في البلاد. إن ارتداء أغطية الرأس في تركيا شيء مختلف تماماً عن ارتدائها في الولاياتالمتحدة، وينبغي للمواطنين والسياسيين الأميركيين ألا يُخدعوا بسهولة». هذه المرأة المسنّة التي قضت سنوات في تركيا للبحث، لا يمكن فصل رؤيتها الكونية عن موقفها من إردوغان «الإسلامي»، ومن مشروعه الإصلاحي للجمهورية التركية. استوقفتني الرسالة؛ لأنها لا تمثل ديلاني وحدها، بل تختصر رؤية كثير من العلمانيين داخل تركيا وخارجها، وهي رؤية مستلهمة من القوالب التقليدية للاستشراق، وضاربة بجذورها في العداء للإسلام، والتوجس من أي مظهر يوحي بعودته، ولو كان قطعة قماش تكسو به فتاة شعرها. من الإصلاحات التي أعلن عنها إردوغان تعزيز حقوق الأقليات، كالسماح بتعليم اللغات واللهجات المحلية غير التركية في المدارس الخاصة، كاللغة الكردية مثلاً، والسماح بإعادة تسميات البلدات الكردية بأسمائها الأصلية التي غُيرت بعد انقلاب عام 1980، وزيادة عقوبات جرائم الكراهية والتمييز (التي تشمل انتهاك حقوق الآخرين في ممارسة شعائرَهم الدينية، بما في ذلك منع الفتيات من الغطاء في العلن) من سنة إلى ثلاث سنوات، وإلغاء «قسَم قومي» يؤديه الطلاب في فصول الدراسة ينتهي بالإعلان: «كم هو سعيد من يقول: أنا تركي». ولكن كالعادة، حظي قرار رفع الحظر عن غطاء الرأس، بالاهتمام الأكبر؛ نظراً لرمزيته بوصفه تجسيداً للصراع بين النخب العلمانية التي تخشى على إرث كمال أتاتورك من التداعي، وبين قطاعات واسعة ومتزايدة من الشعب التركي سئمت من وصاية العلمانية المتطرفة، وحنّت إلى هويتها وجذورها. القرار يشمل أماكن العمل المدنية الرسمية فقط، ولا ينطبق على القضاء والشرطة والجيش التي تتطلب زيّاً عسكرياً، غير أن توسيعه ليشمل هذه القطاعات يظل وارداً. خاطب إردوغان مؤتمراً صحافياً في أنقره بقوله: «تشهد بلادنا، أمتنا، اليوم لحظة تاريخية. إنها تعبر مرحلة في غاية الأهمية. إننا نتخذ خطوات مهمة لنجعل تركيا أعظم حتى من ذي قبل» (رويترز 30 أيلول/ سبتمبر 2013). وخاطب الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية قائلاً: «إن الصعوبات التي كانت تعاني منها النساء والفتيات المحجبات قد انتهت، ولن يعانين بعد اليوم ما عانينه بالأمس»، مضيفاً أن الفتيات المحجبات اللائي يحيّين أقرانهن بكلمة «السلام عليكم» لم يجئن من بلد آخر، بل هنّ مواطنات، ولهن حقوقهن، ولن يغادرن بلادهن إلى السعودية، ولن يرحلن إلى الصحراء ليعشن فيها، كما دعاهن بعض الناس إلى ذلك. وتأكيداً لديموقراطية إصلاحاته، أكد إردوغان أن الفتيات المحجبات وغير المحجبات سيعشن معاً تحت سقف وطن واحد، يتساوى فيه الجميع، وسيعملن معاً في مؤسسة واحدة بعيداً عن كل أشكال التمييز والتفرقة (موقع «أخبار العالم»، 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2013). القرار التاريخي جاء تتمة لقرار آخر صدّق عليه الرئيس عبد الله غول في 22 شباط (فبراير) 2008، يسمح للجميع بحق التعليم في الجامعات، في إشارة إلى الطالبات اللاتي يرتدين الغطاء، ومُنعن من الدراسة، بعد حظر ارتدائه في أعقاب انقلاب 1980. تنبع أهمية «قرار الغطاء» من كون الحظر أحد أعمدة العلمانية الكمالية، إذ استمر 90 سنة، وصفها إردوغان بأنها «فترة كالحة» من تاريخ الأمة التركية. لم تؤطر الحكومة القرار بوصفه واجباً إسلامياً، بل بوصفه إعادة اعتبار لحرية التعبير وحقوق الإنسان. إردوغان قال إنه «خطوة نحو التطبيع»، ونائبه، بكير بوزداغ، كتب في تدوينة على تويتر: «إن القانون الذي كان يتدخل رسمياً في حرية اللباس وأسلوب الحياة – القانون الذي كان مصدراً لانعدام المساواة، والتمييز، والظلم بين الناس – قد أصبح تاريخاً» (لوس أنجلس تايمز، 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2013). صحيفة النيويورك تايمز وصفت مسألة «غطاء الرأس» بأنها «إحدى أسخن القضايا عاطفياً في تركيا»، إذ طالما قسّمت المجتمع «واضعة جماعة متنامية من الأتراك الملتزمين دينياً، والذين يحكمون البلاد، في مواجهة نخبة علمانية كانت قوية يوماً ما، وما برحت تكافح لاستعادة السيطرة على الدولة التركية». بعد القرار التاريخي، ستستطيع الفتيات والنساء المحجبات العمل في الوظائف العامة بعد أن حُرمن منها عقوداً، وسيكون بوسع الموظفات غير المحجبات والراغبات في تغطية رؤوسهن أن يفعلن ذلك الآن، ومن ينتهك هذا الحق، سيكون عرضة للعقاب بحسب القانون. تقول النيويورك تايمز إن برامج التلفزيون الصباحية أظهرت موظفات مدنيات بغطاء الرأس لأول مرة منذ فجر الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وتشير التايمز إلى أن المسألة وتداعياتها تظل موضع جدل في البلاد، مستشهدة بتصريح لحسين كيلك، نائب رئيس الحزب الحاكم، انتقد فيه مذيعة لبرنامج مسابقات موسيقية ظهرت مرتدية «بلوزة» مكشوفة، ثم سرعان ما نشرت الميديا التركية خبر فصلها (8 تشرين الأول/ أكتوبر 2013). إردوغان كان قد أعلن أن نساء بأغطية رأس سيشاركن في انتخابات الحزب المقبلة، فلم يعد ظهور محجبات في البرلمان إلا مسألة وقت، بحسب صحيفة فاينانشال تايمز، التي نقلت أيضاً عن نابي أفجي، وزير التعليم، قوله إن 350 معلمة فُصلن من التدريس عام 1997 تقدّمن من جديد إلى وظائفهن (8 تشرين الأول/ أكتوبر 2013). مخاوف العلمانيين الأتراك وشكاواهم لا تتوقف منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا قبل 11 عاماً. في عام 2008، وبعد قرار رفع الحظر عن غطاء الرأس في الجامعات، كتب إبراهيم كالين، مدير مركز سيتا للأبحاث، في يومية ‹توديز زمان» ‹التركية: «إذا أعطيت قوماً شيئاً واحداً، فسيطلبون في نهاية المطاف أكثر…إذا سمحت بغطاء الرأس في الجامعات اليوم، فسوف يعلنون دولة شريعة في غضون 10 سنوات» (البروني تايمز، ا شباط / فبراير 2008). وقتها خاطب رئيس الحزب العلماني المعارض، دنيز بيكال، رئيس الوزراء أردوغان بقوله:»إني أستأمن كبِداً على قطة، ولا أستأمنك على العلمانية». وقارن مراد بيلغي، الأستاذ بجامعة بيلغي في إستامبول، بين العمامة السيخية وغطاء الرأس، قائلاً إن الشرطي السيخي في إنكلترا والذي يعتمر عمامة تحت قبعته، يمثل أقلية صغيرة، بينما أولئك اللائي يطالبن بحريتهن في تركيا يمثلن أغلبية (النيويورك تايمز، 10 شباط / فبراير 2008). لا يبدو أن الحرس العلماني القديم قد غيّر قناعاته، ولكن التغيير الذي نجح حزب العدالة والتنمية في صنعه، والإصلاحات الشاملة والتدريجية التي أنجزها، وحظيت بتأييد شعبي كبير، لا تبدو قابلة للإلغاء. لقد «هرمت» العلمانية في تركيا، وبالغت في تجاهل الهوية الدينية، وازدراء التاريخ التركي، معبرة عن ذلك بقرارات تفتقر إلى الإنسانية من قمة هرم النخبة العسكرية. ثم بعد نجاح حزب العدالة والتنمية في صنع معجزة اقتصادية حقيقية، والقفز بالدور التركي على الساحات الإقليمية والدولية، وتحقيق إصلاحات مجتمعية في الداخل، لن يكون بوسع أحد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. في تركيا تحل «الإردوغانية» تدريجاً محل «الكمالية»، ويدرك الجميع أن الأتراك يقدمون أنموذجاً آخر؛ ليبرالياً غير سلطوي، يستلهم الإسلام، وتتراجع فيه العلمانية الشاملة، إلى علمانية جزئية، بحسب تصنيف عبد الوهاب المسيري.