"الاستعمال الحقيقي للخطابة لا يقتضي الإفصاح عن رغباتنا بقدر ما يقتضي إخفاءها" (أوليفر غولد سميث)؛ "إذا كنت تستطيع التعبير عن نفسك بوضوح، فينبغي أن تحذر من دخول السياسة" (لي. سي. ماكينزي)؛ "في زمننا هذا، تُعد الخطابة والكتابة السياسيتان دفاعاً عما لا يمكن الدفاع عنه" (جورج أورويل). "هذه الاقتباسات تجسّد الحكمة التقليدية التي ترمي السياسة كلها بالكذب والخداع، وتسمية الأشياء بغير أسمائها. اللغة هي آلة السياسة ومطيتها، وكما يقول بول كوركوران فإن "كل السياسة كلام، وليس كل الكلام سياسة". تؤدي اللغة دوراً جوهرياً في عملية التنشئة، كما تسهم في صنع الشرعية للنظام السياسي، وهي سياسية حتماً لأنها تتجاوز مسألة التخاطب العادي، والتعبير الرمزي، والحفاظ على العادات والتقاليد، ونقل الأنماط الثقافية من جيل إلى جيل، لتصف الوضع الراهن وتعززه وتقومه، أو تشكك فيه وتكبح مساره. وفوق هذا كله، فالسياسة "لعبة كلمات": يتقلد السياسيون السلطة لأسباب منها أنهم يتحدثون ويقنعون، ويسيطرون على الخطاب العام عندما يوظفون مهاراتهم الخطابية، وقدراتهم البلاغية، في الدعاية لبرامجهم، وتحييد المعارضين، والاستتباع، وصناعة القبول (manufacturing consent. يتصدى السياسي بحكم مهنته إلى أكثر ما يهم الناس ويرسم مستقبلهم؛ وهو الشأن العام، بيد أنه لن يكون قادراً على نشر أفكاره من دون صياغتها في قالب يحشد تأييد أولئك الناس. كثيراً ما يقال إن الأفكار أقوى من الكلمات المعبرة عنها، لكن تلك الأفكار لا يمكن أن تحدث التأثير المنشود من دون أن تُعرف. ربما تكون امرأة ما بارعة الجمال، لكنها إن لم تضع اللمسات التي تظهر جمالها فإن زوجها لن يراه، ومن ثم لن يصبو إليها. اللغة الجميلة المصوغة بطرائق لافتة هي "الميك أب" الذي يظهر محاسن فكرة ما، ويجعلها جذابة، و"مهضومة". من دون اللغة تصبح الأفكار خرساء غير قادرة على إنتاج المعاني واستمالة المشاعر، وكما قال أرسطو: "ليس كافياً أن يعرف المرء ما ينبغي أن يُقال، بل يجب أن يقوله كما ينبغي". تؤدي اللغة السياسية وظائف عدة تحقق مراد السياسي في صناعة القبول، أبرزها "تحديد الأولويات"؛ التي تشير إلى قدرة الاتصال على ترتيب اهتمامات الناس بالقضايا، والتأثير في ما يفكرون فيه. قد تؤدي مثلاً إشادة زعيم ما بإنجاز فريق بلاده في مباراة كروية إلى زيادة الإحساس الشعبي بأهمية اللعبة، وقد يؤدي انتقاد خطيب جمعة بارز الانقلاب في مصر، إلى رفع حرارة النقاش حول القضية، ودفعها إلى أعلى سلم الاهتمامات. تحدد الخطابة الأولويات عندما تركّز على موضوع أو شخص ما، فيقفز إلى دائرة الضوء، أو عندما تتجاهل قضية أو شخصية ما فتتوارى إلى الظل. يجري التلاعب بالأولويات أيضاً من خلال التحكم في انتشار المعلومات. يحاول السياسي أحياناً إخفاء إنجازات معارضيه، كما يحاول حجب إخفاقاته، وعندما تظهر هذه العيوب ويتداولها الناس، يحاول صرف الانتباه عنها بوسائل شتى: تسليط الضوء على قضايا أخرى، البحث عن كبش فداء، القيام بعمل عسكري خارج البلاد (الرئيس بل كلينتن اتخذ قرار قصف مصنع الشفاء السوداني لتغطية فضيحته مع مونيكا لوينسكي(. ربما يحاول السياسي أن يتناول قضية، أو يجيب عن سؤال بطريقة غامضة، بعيدة كل البعد عن الشفافية والحسم، أو ما يصفه جون غالبريث بأنه "فن قول لا شيء" (The Art of Saying Nothing). يشيرغالبريث إلى أن السياسيين يستطيعون من خلال مهاراتهم الخطابية أن "يجعلوا الجمهور يغفل عن كونهم يتفادون أسئلته الحقيقية". من هذه المهارات أن يستخدم السياسي عبارات مألوفة لا تغني من الحق شيئاً مثل: "دعوا السفينة تجري"؛ "لا مفر من مواجهة الموقف"؛ "كل آت قريب"؛ و"دعونا نوقد شمعة، بدل أن نلعن الظلام". القاسم المشترك بين هذه العبارات أنها غامضة، و"آمنة"، ويكاد الجميع يتفق عليها، ولا يلزم السياسي نفسه بشيء عند استخدامها. تؤدي اللغة السياسية أيضاً دور "التفسير والربط"، إذ يحاول السياسي جذب الانتباه إلى قضية ما موضحاً سبب استحقاقها الاهتمام، كما يدعم مشاريعه واقتراحاته بربطها باستراتيجيات ناجحة، وبذلك يصنع الحقائق ويشكلها. مثلاً: قد يقود حاكم مستبد شعبه إلى حرب مدمرة، ويُمنى بهزيمة ساحقة، ثم يعلن أنه سيدخل إصلاحات سياسية تشمل انتخابات برلمانية.أحد مستشاري المستبد قد يعلق على هذا الإعلان بالقول: "إن المشاركة الشعبية في الحياة السياسية أمر ضروري لتفادي أخطاء الماضي"- تعليق قصد به تأكيد أهمية الإعلان. الحاكم نفسه قد يلمّح إلى أهمية الإعلان من خلال ربطه ببرنامج متعدد المراحل يهدف إلى "دمقرطة" البلاد (أي أنه ليس بالضرورة نتيجة للحرب). جماعات المعارضة قد تتحدى هذه التفسيرات قائلة إن فكرة الديموقراطية والتعددية "نكتة سخيفة"، و"دعاية رخيصة" يُراد بها تضليلُ الشعب، وإطالة معاناته. وقد تربط هذه الجماعات الحدث بالماضي مشيرة إلى أن الإعلان أسلوب يلجأ إليه الدكتاتور كلما شعر أن قبضته تترنح. وهكذا يمكن تشكيل حقائق مختلفة من مشهد واحد. في المشهد المصري الراهن أنموذج صارخ للتفسير والربط. زعيم طغمة الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، فاجأ العالم بوصمه جماعة الإخوان المسلمين وأنصارهم بالإرهاب، ليرسم "خارطة طريق" جديدة، أبرز معالمها "استئصال" الجماعة، في إطار ما وصفته وسائل دعايته ب "الحرب على الإرهاب". وبالطبع يرد أنصار الشرعية بتأطير معارض لهذا الخطاب، متهمين العسكر بتنفيذ أجندة أجنبية، وإجهاض الديموقراطية، واختلاق ذرائع لترسيخ واقع الانقلاب. من نماذج التفسير والربط توظيف النصوص الدينية، أو الأحداث التاريخية لتبرير أفعال أو مبادرات سياسية. الرئيس أنور السادات مثلاً استشهد، إثر توقيعه اتفاقات كامب ديفيد، بآية: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها". ولما رأى معارضة عربية للمعاهدة شبّه موقفه مع العرب بموقف النبي نوح مع قومه تالياً في خطاب له أمام مجلس الشعب الآيات: "رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا. فلم يزدهم دعائي إلا فرارا. وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا. ثم إني دعوتهم جهارا. ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا". ولما كان هناك دائماً علماء دين يمارسون السياسة بطريقة انتقائية، فيوردون آيات الجهاد، وآيات السلم بحسب أهواء السياسي، ظهر من رجال المؤسسة الدينية من (يربط) كامب ديفيد بصلح الحديبية، كما فعل شيخ الأزهر، عبد الحليم محمود. ويدخل في هذا الإطار صياغة مجموعة من التعريفات والأوصاف لأحداث وجماعات وأشخاص. كثير من الناس يفتقرون إلى الوقت أو المهارة اللازمين لتقييم الأحداث، فيعولون على جماعات مثقفة أو ذات نفوذ، من أجل التصنيف، وإنتاج نعوت مختزلة مثل: "متطرف"، "إرهابي" "معتدل"، "وسطي"، "متشدد"، "مثير شغب"، "مؤيد للديموقراطية"، و"مقاتل من أجل الحرية". تنطلق أكثر هذه التعريفات من منطلقات إيديولوجية لا وصفية بالضرورة، كوصف الرئيس رونالد ريغن الاتحاد السوفياتي ب "إمبراطورية الشر"، ووصف آية الله الخميني الولاياتالمتحدة ب "الشيطان الأكبر"، وتشبيه إسرائيل ب "واحة من ديموقراطية وسط غابة من الدكتاتوريات". يمكن للغة السياسية أيضا أن تعبئ المجتمع، وتدفعه إلى العمل، من خلال تشكيل انفعالات نفسية كالفرح، والفخر، والغضب، والحماس، والولاء. ربما تنوب الكلمات عن الأفعال، كأن يستنكر السياسي أو يمدح، أو يعد بالمساعدة، أو يهدد بالانتقام، ما يخلق حقائق على الأرض تشبه إلى حد كبير أثر الأفعال (مثلاً نجحت إدارة جورج بوش الثاني بمجرد إطلاقها تهديدات لفظية إلى دفع بشار الأسد إلى سحب جيشه من لبنان). وربما توصل الكلمات "إشباعاً رمزياً" يقوم مقام الفعل، كما يحدث عندما تطمئن الوعود عمالاً مضربين، فتعيدهم إلى أعمالهم، أو عندما يعد السياسيون بإصلاحات اقتصادية أو سياسية إذا شعروا أن سلطتهم مهددة. وقد يلجأ السياسي إلى تكتيك آخر هو وعد "المن والسلوى" معترفاً بالإخفاقات، ومستدركاً بقدرته على مواجهتها، أو مشيراً إلى نجاحات موازية "تغطي سوءتها". قد يخرج سياسي على الملأ، فيقول: "بالرغم من تردي الأوضاع الاقتصادية، فإننا استطعنا فتح مزيد من المدارس، وتوفير الآلاف من فرص العمل". اللغة السياسية رافد لا غنى عنه لشرعية أي نظام سياسي. لا تهتم هذه اللغة كثيراً بالتعبير المعرفي، أو نقل الحقائق الماثلة على الأرض، بقدر ما يهمها تدعيم صورة السياسي ونفوذه، ولذا فهي ليست لغة صريحة، بل ملتبسة أو مزدوجة(doublespeak) ترمي إلى الاستتباع وصناعة القبول. يمكن للخطاب السياسي أن يقول الصدق، ويمكن أن يردد أكاذيب متوحشة صادمة للمنطق (مثل القول إن شارون رجل سلام)؛ أكاذيب قد تصبح بفعل الضخ والإغراق جزءاً من النقاش العام، بحسبانها صادرة عن مسؤولي دول عظمى، أو أشخاص أقوياء، أو ذوي صدقية في عيون الجماهير. قد يستخدم سياسيون العنف الجسدي وسيلة لكسب الشرعية، وقد يستخدم بعضهم العنف الرمزي (اللغة) لتحقيق هذا الهدف؛ وهو وسيلة مناسبة للتحكم في المخيال الجمعي للجماهير، وتطويعهم، الأمر الذي يغني عن "العنف الجسدي". باللغة يمكن تدعيم النظام، وتجذير إيديولوجيته، ما لم يتراجع دورها، وتضعف قدرة السياسي، وتقبل الجماهير على منظومة لغوية سياسية أخرى.