اشتهيتُ المرقوقْ، وأنا في السوقْ، وكان الظلامُ قد حلْ، والقمرُ قد أطلْ، في يوم ٍمن أيام رمضانْ، ولا بد للمكبوتِ من فيضانْ، فلما نادى المؤذنُ لصلاة المغربْ، وخنس كلُّ سادرٍ ومطربْ، أفطرتُ على تمرتينْ، وشكرتُ الله مرتينْ، ثم صليتُ مع الجماعة، مستزيداً من الذكر والطاعة، ولما مضتْ ساعة، وفتحت أبوابَها الباعة، انطلقتُ باحثاً عن مطعمٍ نجدي، وطيفُ المرقوق يداعبُ وجدي، غير أني لم أجد شيئاً بقربي، ولم أظفرْ بحنيذٍ ولا مظبي، فطوّحتُ يمنة ويسرة، ودخلت «الفيشاوي» و«أبو شقرة»، فما وجدتُ عندهما طلبي، وقالا:لا نعرف سوى الأكل العربي، فشمّرتُ عن ساعد الجدْ، وأقسمت أن أجدْ، وألا أتناولَ غير المرقوقْ، وإلا نمتُ من غير غَبوقْ، وبينا كنتُ أبحث في المطاعمْ، وهي تَغَصُّ بكل شارٍ ولاقمْ، نادى المؤذنُ لصلاة العشاءْ، فقلتُ: يفعلُ الله ما يشاءْ، لكني وجدتُ خاناً مشرعاً أبوابَه، ويبدو أنه كان يجرد حسابَه، فداهمتُه على عجلْ، وحدثتُه بأمري في خجلْ، فأصرَّ أن أوافيَه بعد الصلاة، وأقسم إن المسألة عنده موتٌ وحياة، فحاولتُ أن أبيّن له بلفظ مليحْ، كم هو صعبٌ أن أصبرَ إلى التراويحْ، فضرب عني صفحا، وطوى عني كشحا، ففوضتُ أمري إلى رب العبادْ، واحتسبتُ عنده وجع الفؤادْ، والحنينَ إلى الزادْ، والشوق إلى تلك الرقائقْ، المتبلةِ بأنواع الحرائقْ. قال سهم بن كنانة: وانطلقتُ إلى مسجد الحيْ، وأنا أردد: يا حيْ، ومكثت ما شاء الله لي أن أمكثْ، غير أني لم أفسقْ ولم أرفثْ، ولما تقدَّم الإمامْ، واصطفَّ الناسُ خلفه في ذلك المقامْ، كبّر تكبيرة الإحرامْ، ثم أطال دعاءَ الاستفتاحْ، حتى خشيتُ أن يطلعَ الصباحْ، وبعدها قرأ السبعَ المثاني، يحبُّرها تحبيرَ الكلباني، ويرتلُها ترتيلَ عزت عناني، بقراءةِ الكسائي، وتدبرِّ النسائي، وتنغيمِ الطبلاوي، وتجويدِ المنشاوي، ثم عاجلني بالقاضية، فأتبع الفاتحة الجاثية، وما إن فرغ من تلاوتِه، مدلّاً بحسنِ الصوتِ وجهارتِه، حتى أمال ظهرَه للركوعْ، متكلفاً الخشوعْ، ومتطلباً الخضوعْ، على نحو لم أعهدْه من قبل، ثم تمتم بكلِّ تؤدة، سمع الله لمن حمده، وبعدها سجد سجودَ ابنِ الزبيرْ، وهجع كأن على رأسه الطيرْ، وأطال في سجودِه، حتى تملكني العجبُ من برودِه، وخشيتُ عليه من الموتْ، وعلى مرقوقي من الفوتْ، وطاشت نفسي فقلت: بقي من السجدات سبعْ، غيرُ الركوع والرفعْ، ولما أيقنتُ في تلك الساعة، بسجود سائر الجماعة، رفعتُ رأسي باحثاً في الصفوف عن فرجة، فرأيتها كالأسنان ليس بينها فلجة، فعدت إلى السجودْ، وقد قنطت من الرقاقْ، وأيستُ من بلح الشام وتمر العراقْ، وشعرت بخافقي يزدادُ خفقا، وصرت كالمنبتِّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، واغرورقتْ عيناي في سجودي، حتى جرتْ دموعي في خدودي، وظن الذي بجانبي أنني أبكي من الخشوعْ، فبكى لبكائي، غير أني لم أعقلْ شيئاً من دعائي، إذ كانت سورةُ الجوع قاسية، وكانت أمعائي من الزاد خاوية، وبدا لي أني أغضبت ربي، وفكرت في عمل صالح يمحو ذنبي، وجلس الإمامُ للتشهدْ، وأنا بين الزفير والتنهدْ، وتمتمت في سري: ما على الجائع من حرجْ، وأبشر فقد دنا الفرجْ، ولما سلم الإمامْ، وهممت بالقيامْ، صاح بنا أحد المصلين: ناشدتكم الله إلا استمعتم إلي، وأقبلتم بوجوهكم علي، فلم آبه لندائه، إذ كان المرقوق يناجيني بحدائه، ويسبيني بروائه، ويدعوني إلى شرائه، فكأني ناظرٌ إلى عليائه، معلقٌ بين أرضه وسمائه، بيد أن الرجل أرغى وأزبدْ، ووجهه مكفهرٌ أربدْ، وصاح بالناس: من كان يحب الله والرسولْ، فليستمعْ إلى ما أقولْ، فلم يخرج أحدْ، ومن همَّ بالخروج قعدْ. قال سهم بن كنانة: وتراءى لي صحنُ المرقوقْ، ساخناً غير محروقْ، مشتاقاً يسعى إلى مشوقْ، فشعرت كأنني مخنوقْ، غير أن الرجلَّ حدجني ببصرِه، ورماني بوترِه، فلم أجدْ بداً من اتقاء خطرِه، وقضاءِ وطرِه، وانتصب مستنداً إلى أسطوانة، يحدثُّ الناسَ عن الأمانة، ويحذرُهم من الخيانة، ويندد بغدرِ الولاة، وتهافتِهم على الحياة، وعدوانِهم على الخلقْ، وقتلِهم الأبرياء َبغير حقْ، وما يفعلون من مظلمة، وما يقلبون من أنظمة، وما ينطقون من بُهتْ، وما ينفقون من سُحتْ، ثم دعانا إلى الصدقة، حتى على المرتزقة، وأتى بأمثالٍ وأخبارْ، وروى عن فقهاءَ كبارْ، وأنشد لنا من الأبيات، ما لن أنساه إلى يوم الممات، فكان مما قال: ما ينقصُ مالٌ من صدقة فاهرعْ يا صاح إلى النفقة افتحْ أبوابَك منشرحاً واملأ أعطافك بالشفقة المؤمنُ غيثٌ منسكبٌ فتبارك من يحسو ودَقَه المؤمنُ روضٌ منبسطٌ فوّاحٌ ما أزكى عبَقَه! جذابُ الطلعةِ مؤتلقٌ كالنجمِ فما أبهى ألقه! إنْ مسَّ الناسَ الضرُّ غدا مهموماً ذا روحٍ قلقة مشبوبَ الذهنِ ولا يلوي إن حلَّ الكربُ بهم عنُقَه بالبذل يحلّق في العليا من يغشى في العليا أفُقَه؟ كالريح تسافرُ بالبشرى كالخيلِ تحمحمُ منطلقة ويدقُّ يدقُّ بلا كللٍ أبوابَ الخيرِ المنغلقة ما ثمة بابٌ من كرمٍ وعطاءٍ إلا قد طرَقَه ويغارُ يغارُ إذا أحدٌ لبلوغ القمةِ قد سبقه يحدوه الوجدُ لها زمناً ويطيلُ الشوقُ لها أرقه لا يرجو أجراً من أحدٍ لا يرجو إلا من خلقه! قال سهم بن كنانة: ثم سكت الرجلُ مليا، وبدا كأنه يترقب رُطباً جنيا، وشرع يتفرسُ في وجوهِ القومْ، وما منهم إلا مُرهفٌ السمعْ، أو ساكبٌ الدمعْ، وبعضهم فغر فمَه، وقليلٌ تساءل عما وراء الأكَمَة، ثم إنَّ الرجل كشف اللثامْ، وأبان المرامَ، فزعم أنه صعلوكٌ لا مال لهْ، ومنبوذٌ فقد أملَه، وأنه دخل سوق (السهامْ)، فجرّعته كأس السقامْ، وأوردته الموتَ الزؤامْ، فأعرق وأشأمْ، وأنْجدَ وأتْهمْ، وجاب الأقطار جوْبَ الحميرْ، وتعاقب على حلولها تعاقبَ ابنَيْ سميرْ، فبلغ خراسانَ وكشميرْ، ووطئ القسطنطينية وأزميرْ، فلم يظفرْ بأعطيةِ أميرْ، ولم يعدْ حتى بقطميرْ، بل عاد بخفيْ حُنَينْ، بعد أن ركبه الدَّيْنْ، وذاق الأمرَّيْنْ، واستعبر فبكى حتى اخضلَّتْ لحيتُه، وابتلّتْ سترتُه، وشرق بدموعِه، وكادت روحُه تُفلتُ من ضلوعِه، وجعل يجففُ خديْه بأكمامِه، وتهدَّج صوتُه فلم نعدْ نعقلُ شيئاً من كلامِه، فقام إليه الناسُ يمطرونه بالمالْ، ويفدُّونه بالصحبِ والآلْ، وبعضُهم خلع عليه بردتَه، وآخر أهدى إليه ساعتَه، فعجبتُ من أمرِه، وعزمتُ على كشف سرِّه، ولما نظرت إليه من قريبْ، وتأملتُ سُحنتَه تأملَ المستريبْ، ورميتُه بعينَيْ بازْ، عرفتُ أنه شيخُنا أبو نصر العزازْ، فسألتُه متعجباً:ما حملك على ما صنعت؟ فأنشد: احتلتُ في كسبِ رزقي لما رمتني سهامي وجلتُ غرباً وشرقاً أريدُ نول الكرامِ قد حسّن الله خَلقي وسيرتي في الأنامِ لكنني في اشتياقٍ إلى هطول الغمامِ إلى الدنانير يشفي بها الإله سقامي ويكشف البؤسَ عني بلمْعِها في الظلامِ إني كريمُ السجايا من نسْلِ صيدٍ كرامِ رضعتُ نهدْ المعالي مستنكراً طبْعَ ذامِ ما كنتُ للسلبِ باباً يُجيزُ أكل الحرامِ لكنه الفقرُ يسري بنارِه في عظامي فالأرضُ مهدُ الرزايا والأفقُ حضنُ الجَهامِ واليأسُ ليلٌ كئيبٌ مطرّزٌ بالحطامِ هل بعد هذا ملامٌ عليَّ، لا من ملامِ فقلت: بل أنت ملومْ، ولنفسِك ظلومْ، ولن يحجبَ بيانٌ أبدعتَه، شراً في نفسك أضمرتَه، لا بارك الله في فعلتِك، وبئس ما كنزتَ في جَعبتِك، ثم خرجتُ باحثاً عن مرقوقي، والغضب يجري في عروقي.