اتصلت أبارك لصاحبتي مولودتها الجديدة وختمت المهاتفة بالدعاء أن يبلغها ربي رمضان ويوفقها لصيامه وقيامه إيمانا واحتسابا ، ثم أردت تدارك الموقف بدعوة تناسب حالها لعلمي أنها ممتثلة لأمر الله بعبودية الفطر فذابت حروفي بحرارة تنهيدتها الملتهبة ، تلك التنهيدة المحرقة ذكرتني بتنهيدة خالتي– رحمها الله – حين كلمتني العام الماضي لتخبرني بمنع الأطباء لها من الصيام في أيام جرعات الكيماوي . حروفي القادمة لأولئك الذين حبسهم العذر أو المرض أو السفر عن الصيام والقيام .. وتنبيه لغافلنا ومقصرنا في شهود نعمة الله عليهم ، ومنته وفضله لعله يكون دافعا للتزود فقد يأتي اليوم الذي يُحال بيننا وبين الصيام والقيام إما لمرض أو لعذر أو لموت . خُلقنا في هذه الدنيا لتحقيق العبودية ، ومغزاها الاستسلام والامتثال لأمر ربنا ، فإذا هل هلال رمضان ، وفتحت أبواب الجنان ، وغلقت أبواب النيران ، وصفدت مردة الشيطان، وجب على بعضنا الصيام، وحَرُم على البعض الآخر لحكمة علمها سبحانه . فالمعذور عن الصيام والقيام لأي عذر كان ليس محروما من الطاعة ، ولا ممن كره الله انبعاثه فثبطه ، ولا لأن الله لم يحب قربته فمنعه .. كلا! فمن صام وجوبا امتثل لربه ، ومن أفطر وجوبا امتثل لربه ، فكلاهما في دائرة العبادة لا فضل لأحد على أحد .. بقي ما يقع في القلب من حسرات على فوات الخيرات ، يراهم يصومون ويصلون ، وهو عاجز أو ممنوع عن فعل ما يفعلون ، يتذكر أيام رمضاناته الفائتة ، يحن لظمأ الهواجر ، وفرحة الفطر.. يشتاق لطول القيام ودموع المحاريب .. يئن على فوات انكسار قلبه في خلوة اعتكافه .. يتذكر عروج روحه في سلالم القربات ، وسمو نفسه في الطاعات .. أنى له ذلك ؟! وكيف يأنس بالقرب من ربه وهو ممنوع من زاد قلبه : صيامه وقيامه ؟! ابشر وأمل أيها المعذور فإنك تتعامل مع رب كريم رحيم .. وربما بلّغك بتلك الكسرة والحرقة التي اشتعلت في فؤادك على فوات الطاعة في زمنها الفاضل أضعاف ما كنت تعمل، فأعمال القلوب تجارتنا التي لن تبور مع علام الغيوب سبحانه . ولا تلتفت لتحزين الشيطان فأجرك بإذن الله كاملا، بشرنا بذلك حبيبنا صلى الله عليه وسلم: " إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا". قال الشيخ السعدي رحمه الله في كتابه بهجة قلوب الأبرار: (هذا من أكبر منن الله على عباده المؤمنين أن أعمالهم المستمرة المعتادة إذا قطعهم عنها مرض أو سفر كتبت لهم كلها كاملة لأن الله يعلم منهم أنه لولا ذلك المانع لفعلوها فيعطيهم تعالى بنياتهم مثل أجور العاملين مع أجر المرض الخاص،ومع ما يحصل به من القيام بوظيفة الصبر أو ما هو أكمل من ذلك من الرضى والشكر، ومن الخضوع لله والانكسار له). ثم إن المنع خاص بعبادات معدودة، وباقي العبادات فمشرعة أبوابها تنتظر ولوجك ومنافستك فيها من قراءة قرآن وتدبره، وذكر، ودعاء ، وصدقة، ودعوة للخير ، وتفطير صائم ،وإدخال سرور على قلب مسلم، وتفريج كربة، وصلة رحم، وتعرض لنفحات العتق،… وغيرها من أبواب الخير، ومنافذ الأجر. أيها المريض أو المسافر أو المعذور تأمل ما سيلحقك من ضرر ومشقة لو صمت ، وربما أوديت نفسك للتهلكة، دعك من هذا وتنقل في بستان العبودية لتقطف من ثمارها ما لا يتهيأ جنيه للصائم القائم ، من تلك الثمار : * عبودية الاستسلام والانقياد وامتثال الفطر . * عبودية الحمد والشكر للرحمن الذي رحمك بهذا التشريع وحماك من الضرر . * عبودية الصبر على البلاء . * عبودية شهود المنة والاعتراف بالنعمة لسنوات خلت كنت تصوم وتقوم بعافية. * عبودية الرضا بالقضاء . * عبودية التسليم للحكيم في اختياره وشهود حكمته في تدبيره. * إضافة إلى أجر ما كنت تعمل قبل عذرك من صيام وقيام وسائر القربات التي حال بينك وبين فعلها ما ألم بك. وغيرها من الثمار التي يهبها الوهاب من يشاء من عباده ، فيرقيهم في مدارج السالكين ومنازل السائرين .. تفكر أيها المعذور في حكمة العليم الحكيم حين قدر لك هذا العذر الذي منعك الصيام والقيام في هذا الوقت تحديدا ؟ تأمل في اختباره لك لينظر كيف ستقابل قدره ؟ { لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } تدبر في تدبير الخبير ، وبرهن على صدقك ورغبتك في استغلال هذه الأيام الفاضلة ، والليالي الشريفة بأنواع الطاعات والقربات بحسب الوسع والطاقة. وأبشر أيها المعذور فإنك ممتثل متعبد لمولاك بفطرك . رقمته: أبرار بنت فهد القاسم