آية في كتاب الله استوقفتني كثيرًا، وهي قوله تعالى :{ أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } [ العنكبوت : 51] . لم يقل الله جل جلاله عن شيء مما أنعم به على كثرته إن فيه الكفاية عن غيره والغنية عما سواه إلا القرآن، فأي نعمة غيره مهما كانت يمكن أن يعيش العبد بدونها وربما يتحمل فقدها إلا نعمة الوحي والإيمان، وقد جاء في حديث أبي هريرة إذ قال r : "ليس منا من لم يتغن بالقرآن " [رواه البخاري برقم : 7527 ]، وفسر التغني بعض أهل العلك كسفيان بن عيينة بقوله: يستغني به [ رواه البخاري برقم : 5024 ]، وكأن البخاري يختاره وتصديره الباب الذي أورد فيه الأثر بالآية الآنفة يقوي ذلك . إن الوحي هو الحياة الحقيقة والناس بدونها أموات، وأشباح بلا أرواح، وجسوم بلا حياة، كما قال تعالى :{ أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} [ الأنعام : 122] . ولذلك سمى الله الوحي روحًا لأنه به تحيا النفوس، قال تعالى :{ وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [ الشورى:53] . والوحي قل حياة كل حيِّ فالناس أموات بغير وحيِّ ووصف الله للقرآن بالكفاية هو أحد الأوصاف التي وصف الله بها كتابه العزيز، وهي أوصاف عظيمة كثيرة متناثرة تناثر الجمان في مواضع عديدة من القرآن، ولست هنا بصدد عدها أو حصرها، وثمة رسالة جامعية في هذا الباب أحيل إليها ومن أحيل على مليء فليحتل، والسؤال الذي أراه ملحًّا هو لماذا لا نجد أثر هذه الأوصاف في حياتنا ؟ إن الجواب عن هذا السؤال يكمن في أمرين لا ثالث لهما – فيما أرى – : الأول : أن يقال : إن الله – وتعالى الله وتقدس – يحدثنا بشيء لا حقيقة له، ويخبر عن شيء لا أساس له في الوجود، وإنما هي أوصاف لا أثر لها، وأسماء لا حقائق تحتها . الثاني : أن يقال : إن الخلل في أنفسنا، وأن القرآن هو كما أخبر عنه الله في كتابه، وكما أخبر عنه رسوله r في سنته، وإنما أوتينا من قبلنا أنفسنا . فالخيار الأول لا مكان له إلا في قلوب الزائغين، ولا يتطرق إلا إلى أفئدة المكذبين بآيات رب العالمين، الذين قال أسلافهم – كما حكى الله في القرآن عنهم – : { إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } [ الفرقان : 4-5] . ولو كان القرآن – وحاشاه – مجرد كلام لا حقائق له لما بقي هذه المدة الطويلة من القرون المتعاقبة دون أن يأتي أحد بمثله، ولما شاهدنا في غيرنا آثاره، ويكفي في هذا أن نقول كما قال الله تعالى:{ ذلك الكتاب لا ريب فيه} [ البقرة: 1] وقال تعالى : {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [ النساء : 82] ، وقال تعالى : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [ فصلت : 42] ، وقال تعالى:{ إنه لقول فصل * وما هو بالهزل} [الطارق : 13- 14] فإذا تقرر هذا كان الخيار الثاني باقيا بحاله، فالخلل إذًا في أنفسنا وهذا حق لا ريب فيه، فأين يكمن الخلل يا ترى؟ ومن أين أُتينا ؟ سأضرب لك مثالين أو ثلاثة وستعرف حينها أين الخلل : لو أتينا بعسل خالص ثم خلطناه بملح وليمون وزنجبيل وفلفل، ثم قلنا لرجل له ذائقة قوية : ذق هذا العسل وحدثنا عن طعمه ؟ فإنه سيقول قطعًا : وأي عسل هذا الذي تتحدث عنه ؟! لقد فقد هذا الرجل طعم العسل لما فيه من الأخلاط التي تخالف طبيعة العسل فلم يجد طعمه، وهكذا نحن خلطنا بالقرآن أمورًا ليتها من المباحات بل في كثير من الأحايين من المحرمات كالسماع المحظور والمشاهد الآثمة وغيرها، ففقدنا طعمه . لقد جرت العادة أن من شرب لبنًا في إناء ثم أراد أن يشرب به عصيرًا فإن يغسله، وهكذا قلوبنا التي هي أوعية للقرآن كما قال ابن مسعود رضي الله عنه :" إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره" [أخرجه ابن أبي شيبة برقم : 30633]، فإنها أوعية نريد أن نحمل بها القرآن فكيف بمن كان وعاؤه مخروقًا ؟ و كيف بمن كان وعاؤه متسخًا ؟ فمن كان ذا وعاء مخروق فليرأب صدعه، ويسد خرقه، ومن كان ذا وعاء متسخ – وهو أهون حال من سابقه- فليغسله وليتعاهد تطهيره، فإن القرآن وما يضاده كالغناء ونحوه لا يجتمعان في قلب أحد كما قال ابن القيم : حب القران وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان فيا باحثًا عن طعم العسل وقد خلطه بما يخالف طبيعته وتركيبه من الأخلاط صَفّ العسل تجد طعمه، وطهّر وعاءك من الأخلاط والأحماظ تذقه شهدًا صافيًا . وأما المثال الثاني : رجل ظمآن يكاد يقتله الظمأ ويهلكه العطش فجاءه أحدهم وكان شاعرًا بليغًا فوصف له الماء بأبلغ الأوصاف ومدحه بأجل المدائح فهل يسد هذا عطشه أم يزيده هذا عطشًا ؟ ثم جاءه ثانٍ بصور جميلة للماء ينساب بسلاسة وعرض عليه مناظر خلابة للأنهار ومشاهد بديعة للشلالات فهل يطفأ هذا ظمأه وهل يغنى عنه شيئًا أم يزيده هذ عطشًا ؟ ثم جاءه ثالث فأسمعه خرير الماء وصوت انصبابه من الأعلى وانحداره فهل يروى هذا غليله أم يزيده هذا عطشًا ؟ ثم جاءه رابع فجعل يصب الماء على يديه ورجليه يحسسه ببرد الماء وليونته، فهل يزيل هذا حرارة باطنه واحتراق جوفه أم يزيده هذا عطشًا ؟ هل عرفت ما أقصده أيها القارئ الكريم ، لقد تعاملنا مع القرآن بشتى الوسائل لقد قرأناه وسمعناه وحفظناه، وهذا كله خير وبركة، ولكن ليس كافيًا ولا مغنيًا وليس هو المقصد من إنزاله، إننا لم نتدبر القرآن ولم نتعامل معه بقلوبنا، لقد حركّنا به ألستنا، وشنّفنا به مسامعنا، وكحّلنا به أعيننا، بل وزيّنا به بيوتنا، إلا أننا لم نحرك به قلوبنا، ولم نتدبره بأفئدتنا، ولم نجله بدواخلنا، فكان نفعه قليلًا، وأثره ضيعفًا . أما المثال الأخير : فلو أخذت لسان أحدهم فجعلت عليه لاصقًا وأدرته على لسانه كله، ثم سقيته عسلًا مصفى وشهدًا محلى، ثم قلت له : كيف طعمه ؟ هل سيجد طعم العسل أم أن العسل والحنظل عنده سواء ؟ لو صببت على لسانه كل شهد في الدنيا وكل عسل في العالم ما أحس به، لأن الحساسة التي بها يذوق الإنسان معطلة . إنك تستطيع أن تقوم الليل كله، وتستطيع أن تقرأ القرآن كله، وتستطيع أن تقرأ كل تفاسيره، ولكن لا تستطيع أن تخشع، ولا تملك أن يتأثر قلبك، ولا تقدر أن يرق قلبك، فأسأل من يملك قلبك أن يفك عقاله وأن يطلق وثاقه، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . وإن من أعظم ما يوثق القلب ويحرمه لذة القرآن وتدبره، الإعراض عن القرآن وترك ما فيه من أوامر ونواهٍ، قال تعالى :{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا} [ الكهف : 57] . إن من أعظم العقوبات أن يقسو القلب فلا يؤثر فيه شيء، ولا يحركه شيء، تمر عليه المواعظ والآيات وكأنها لا تعنيه، إن عقوبة الإعراض عن آيات الله أن يجعل على القلب غطاء كأغطية الثمر فلا يدخلها شيء ولا تنتفع منه بشيء، كما في اللسان إذا جعل عليه لاصق فلا يجد طعم شيء مما يذوقه، وقد توعد الله قساة القلب فقال سبحانه :{ فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } [ الزمر : 22 ] . والقرآن كما وصفه الله عزيز، والعزيز في الناس أجل من أن يأتي من لا يأتيه، وأكبر من أن يقبل على من أعرض عنه، وأرفع من أن يحظى به من لا يستحقه، قال تعالى : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [ فصلت : 42] . أيها القاري الكريم إننا لا نعرف القرآن إلا في المآتم، أو في الصباح نستفتح به اليوم للتبرك ثم نعقبه بالموسيقى، أو لا نعرفه إلا في أوائل الاحتفالات يفتتح به للتبرك، أو لا نعرفه إلا إذا أصبنا بمس أو صرع، أو لا نعرفه إلا في رمضان والجمع . كثير من المسلمين يظن أن القرآن مجرد أوامر ونواهٍ ربانية وأحكام تكليفية أوامر : اعبدوا .. صلوا .. صوموا .. حجوا .. إلخ، أو نواهٍ : لا تشركوا .. لا تسرقوا .. لا تزنوا .. لا تعقوا والديكم .. إلخ، مع قصص عن بعض الأنبياء والصالحين مع أعدائهم، وجنة يدخلها المؤمنون وهو منهم ونار يدخلها الكافرون فقط، ويقرأه طلبا للبركة والأجر المترتب على القراءة . إن هذه النظرة القاصرة للقرآن هي التي تسيطر على أغلب المسلمين إلا من رحم الله، وما دروا أن القرآن يكفل لهم السعادة في الدارين قال تعالى : {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [ طه : 2]، وفي الحديث :" إن الله ليرفع بهذا القرآن أقوامًا" [ رواه البخاري برقم : 817 ]، وبالإعراض عنه تحصل المشقة والعنت والضيق كما قال تعالى في آخر السورة نفسها التي استفتحها بنفي الشقاء بالقرآن : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} [ طه : 124]. لقد تكفل الله لمن عمل بالقرآن واتبعه بأربع ضمانات الواحدة منها تساوي الدنيا وما فيها قال تعالى { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة : 38]، وقال تعالى :{ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } [ طه : 23 ] . وأخيرًا أختم بذكر صفات عباد الله وحالهم مع آيات الله جعلنا وإياكم منهم، وهي ذروف العين، واقشعرار البدن، ووجل القلب، وسجود البدن . قال تعالى :{ إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} [الإسراء : 107-190] وقال تعالى : { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } [ مريم : 58 ] وقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد } [ الزمر : 23] . رزقنا الله تدبر كتابه ومنحنا جزيل ثوابه وصلى الله وسلم على رسوله وآله وأصحابه.