كتبها: محمد بن عبد الله المقرن الرياض 1/7/1443ه [email protected] مقدمة هذه حروف من دموع.. وكلمات مليئة بالذكرى والدعاء. أكتبها في رحيل الشيخ صالح بن محمد بن اللحيدان – رحمه الله – وقد تداعت أمامي كل المواقف والذكريات.. صوته ورسمه.. نعشه وقبره.. مدخل كثيرون يمرون بك في حياتك لا يبقى لهم بذاكرتك سوى الاسم والرسم.. لكنهم قلة أولئك الذين يضعون لهم مكانًا في حياتك، بل يسكنون في قلبك.. فتسعد بهم إذا حضروا وتشتاق لهم إذا غابوا، وتدعوا لهم إذا رحلوا. كان الصالح اللحيدان – رحمه الله – من تلك القلة في حياتي.. البدايات عرفت الشيخ (صوتًا)وكنت حينها في المرحلة الثانوية، فقد كان والدي -رحمه الله -مستمعًا دائمًا لبرنامج " نور على الدرب "والذي تبثه إذاعة القرآن الكريم من الرياض، حتى بت أعرف الساعة ببث البرنامج، وكان الشيخ من ضيوفه الدائمين، وصوته يملأ أرجاء منزلنا، وللشيخ صوت مميز لا تخطئه الإذن إذا سمعته. وعرفته (مدرسًا)في المسجد الحرام في شهر رمضان وفي العطلة الصيفية، ومكانه الثابت في صحن المطاف بالجهة الغربية حيث يجلس على كرسيه الخشبي تجاه القبلة وعليه "بشته" العودي وشماغه الأحمر، وقد التف حوله جموع كبيرة من الرجال، وللنساء حضور كبير حيث يجلسن خلفه بين نهاية صحن المطاف وبداية المصابيح في الجهة الغربية، وينقل صوته عبر مكبرات إلى أماكن عديدة في الحرم المكي. ارتبط درسه وصوته في أذهان الكثيرين في شهر رمضان حيث يبدأ درسه يوميًا بعد صلاة التراويح، يفتتح حديثه بمواعظه عامة شاملة ثم يجيب على أسئلة الحضور، ظل لسنوات عديدة على هذا الحال حتى أقعده المرض رحمه الله. وعرفت الشيخ (تلفزيونيًا)عبر القناة السعودية وفي برنامج "إفتاء" يجيب فيه على أسئلة المشاهدين. وعرفته (كاتبًا)وهو يرد عبر مقالة صحفية على كاتب سطر مقالة يثني فيها عليه وعلى جهده وعمله، فرد رحمه الله مبينًا ماورد في ذم المدح والنهي عنه. وعرفت الشيخ (كُتبيًا)وقد رأيته في شهر رمضان لعام 1413ه منهمكًا بالبحث والمطالعة والشراء في مكتبة الباز بمكة المكرمة والواقعة في أعلى حي الشامية قرب الدفاع المدني.
اللقاء الأول في نهاية عام 1426ه تواصل معي الأستاذ فهد الشميمري – وكان حينها رئيسًا لمجلس قناة المجد الفضائية – يبلغني موافقة الشيخ صالح اللحيدان على المشاركة في برنامج الإفتاء الذي كنت أقدمه (الجواب الكافي) على أن يكون ذلك في منزله تقديرًا لمكانته. أوضحت له صعوبة ذلك لكون البرنامج يبث مباشرة ولم تكن القناة – وقتها – لديها إمكانية البث المباشر من المكان وبالتالي يكون البرنامج مسجلًا وهذا يضعف البرنامج، إضافة إلى صعوبة اتصالات المشاهدين، واختلاف الديكور، ولذا من الأفضل حضور الشيخ لمقر القناة وتقديم الحلقة كالمعتاد على الهواء مباشرة. شعرت بحرج أخي فهد في مراجعة الشيخ فتكفلت بذلك، ذهبت لمجلس القضاء الأعلى يوم السبت 23/12/1426ه، للقاء الشيخ ولتحديد موعد مشاركته وحضوره للقناة. كان المجلس -وقتها- قصر قديم يقع على شارع ابن نجم في حي المعذر شمال الرياض. لا يمكن وأنت تقف عند مجلس القضاء الأعلى أن تتجاوز شخصيتين كان لهما الفضل الكبير على هذا المجلس. الأولى: الملك الصالح خالد بن عبد العزيز – رحمه الله – الذي أسس هذا المجلس في بداية عهده سنة 1395ه وأولاه عناية كبيرة. والشخصية الثانية: سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – أول رئيس لهذا المجلس ومؤسس نظامه القضائي. لقد مر بهذا المجلس قائمة طويلة من العلماء والقضاء ساهموا في مسيرة القضاء كان منهم المشائخ محمد بن جبير وإبراهيم بن محمد آل الشيخ وعبد الله بن عقيل ومحمد البدر وصالح بن غصون وعبد الله الرشيد ومحمد بن الأمير رحمهم الله. لم أجد صعوبة في الوصول لمكتب رئيس المجلس فليس دون ذلك سوى موظف يجلس في غرفة عادية بفرشها وأثاثها، وحوله عدد من المراجعين ينتظرون الإذن بالدخول وتقابلها غرفة هي مكتب رئيس المجلس وليس عند بابها موظفو أمن أو علاقات عامة. أبلغت الموظف سبب حضوري فطلب مني الانتظار والدخول بعد المراجعين لكون موضوعي لا علاقة بالعمل أو القضاء. انتظرت حتى انتهى الجميع ثم توجهت لمكتب رئيس مجلس القضاء حيث كل شي يوحي بالبساطة وعدم التكلف، في نهاية الغرفة مكتب خشبي عتيق قد امتلأ بالمعاملات والملفات يجلس خلفه رئيس الهرم القضائي في البلد. بادرت مسرعًا للسلام على الشيخ حتى لا يقوم لكنه كان أسرع فقام وقد ارتسمت على وجهه الابتسامة ويقول:" أهلا بأصحاب المجد ". يالله.. إنه الصوت المميز الذي كان يملأ جنبات منزلنا وأنا طالب في المرحلة الثانوية.. فأي شرف لي اليوم في لقائه والجلوس معه؟ قبلت رأسه وعرفته باسمي وداعاني للجلوس على يساره، وتحدث عمن يعرف من أسرتي ومن تولى القضاء منهم وعن مسقط رأسي (بلدة القرينة[1]) وتاريخها وقول جرير فيها.. كل ذلك في تبسط عجيب وحديث لا يمل وذاكرة عجيبة، وكأنما الشيخ أراد تبسيط اللقاء كونه اللقاء الأول. ———————————————————— [1]القرينة، تقع شمال الرياض بمسافة 70 كم بين ملهم وحريملاء، وتعود تسميتها إلى وادي قران، وذكرها جرير بقوله: (كأن أحداجهم وهي مقفية …نخل بنخل أو نخل بقران) من أشهر الأسر فيها: المقرن والسلطان والزومان وال علي والدعيلج تحدثت فشكرته على موافقته بالمشاركة ثم أوضحت أن من الأفضل أن تكون مشاركته في استوديوهات القناة لوجود التجهيزات كاملة وليكون البرنامج مباشرًا، فلم يزد أن قال " على بركة الله " فوجدتها فرصة فقلت إذن تكون الجمعة القادمة.. صمت وكأنما يستذكر مواعيده ثم قال " بعون الله " كان هذا اللقاء السريع هو بداية تشرف البرنامج بمشاركة الشيخ صالح اللحيدان-رحمه الله – وظهوره الكبير على شاشة قناة المجد الفضائية " كتب الله له فيه الأجر والمثوبة". خرجت من المجلس وقد تعلمت الكثير.. تعلمت أن الإنجاز يتحقق بعمل وجهد ونية وصدق وليس بمكاتب فاخرة وأن بناء الصور الذهنية من كلام الناس مجرد أوهام تنتهي عند أول لقاء.. وأن العاجز هو من يجعل الوصول إليه سراب ولقاءه حلم.. وأن القضاء في بلادنا يدعمه ولاة أمر ويقف خلفه علماء وقضاة مخلصون صادقون.. خمسون عامًا في القضاء
هذا العنوان جعلته عنوانًا لحلقات تلفزيونية أو إذاعية مع الشيخ نستعرض فيها حياته وشيوخه وأعماله وموافقه، لكنه-رحمه الله -رفض رفضًا قاطعًا رغم إلحاحي عليه عدة مرات وسنوات.. وكنت أقول له هذا حفظ لتاريخكم ومسيرتكم، فكان يرد علي: " نسأل الله السلامة والعافية وأن يغفر لنا ما مضى " وكلما راجعته في ذلك قال: " وش يستفيد الناس من عمل صالح اللحيدان.. الله يتوب علينا ". كان للشيخ هيبة فطرية في شخصيته وحديثه وعمله.. سار في القضاء على نهج شيخه مفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، فللقضاء مكانته وللقضاة هيبتهم، ولا يعني ذلك عدم المحاسبة والمراجعة، فقد كان يعاتبهم ويحاسبهم ويصل إلى إعفائهم وقد تم ذلك، ولكنه يعالج ذلك داخل أروقة المجلس؛ لأن الهدف محاسبة المقصر وتصحيح الخطأ والحفاظ على سير العملية القضائية بعيدًا عن بناء مواقف بطولية عبر أخبار صحفية أو مقالات مادحة. يقول الشيخ صالح بن حميد وقد خلفه في مجلس القضاء:" وأحيط القضاء في عهد سماحته بسياج من الحفظ والهيبة قل نظيره وكان يحمي القضاة، ويحفظ جانب القضاء من كل من يحاول أن يتطاول عليه من أن ينال من أهله من جهات أو شخصيات " لما نشرت صحيفة يومية قصيدة شعرية ملأت بها صفحتها الأخيرة تهجم فيها الشاعر على القضاة ووصفهم بكل وصف معيب، انتفض الشيخ صالح اللحيدان -رحمه الله- حفظًا لمكانة القضاء وعرض القضاة فخاطب من لحظته ولاة الأمر – وفقهم الله – فتم محاسبة الصحيفة والشاعر وإحالتهم لجهات الاختصاص. والشيخ بهذا الموقف يوجه رسالة للقضاة لا تنشغلوا بمن يتعرض لكم.. فعملكم أولى وأهم وأنا أكفيكم ذلك كنت معه بمكتبه وقد اتصل به أحدهم على هاتف المكتب المباشر وكان له مكانة كبيرة، ولكنه خصم في قضية منظورة قضائيًا، فرأيت الغضب الشديد على وجه الشيخ وهو يعاتبه بشدة على تواصله ويرفض الكلام معه حتى تنتهي قضيته وهدده إنه عند تكرر ذلك سوف يرفع بأمره لولاة الأمر. ورأيته مرة يعاتب مراجعًا وبقوة لما تكلم في قاضي بلدتهم ويمنعه من الحديث وقال له: إذا لديك ملاحظة أو تجاوز من القاضي فاكتب ذلك في شكوى لنا ونحيلها للتفتيش القضائي لينظر في موضوعك أما الحديث عن القاضي بهذه الطريقة فهو تشهير وتجني لا نسمح به. وددت مرة أن أسأله عن حضوره للعمل، ولكني تذكرت أنه يغضب من كل شيء فيه حديث عن نفسه، ولكني علمت بعد ذلك بالمصادفة. كنت أتحدث معه ذات يوم عن بعض الأخبار الداخلية والخارجية فقال: " لقد استمعت لذلك في أخبار الإذاعة والتي تبث الساعة السابعة صباحا " فسألته هل تتابع الأخبار يوميًا؟ فقال " نعم وأنا في طريقي للمكتب وأحيانًا أكون وصلت للمكتب قبل ذلك " فعلمت أن دوامه الوظيفي يبدأ من السابعة صباحًا وقبل ذلك، كما علمت أنه يصلي العصر في المسجد القريب من مكتبه ثم يتوجه لمنزله وفي أحيانٍ كثيرة يعود إلى مكتبه بعد المغرب. كل ذلك يفعله وهو بمرتبة وزير وقد تجاوز عمره – وقتها- سبعين سنة. كان رحمه الله يفتح باب مكتبه يوميا لجميع المراجعين وهم ما بين مراجع وصاحب حاجة أو شكوى أو مستفتي. حضرت بنفسي ذلك عدة مرات وقد رأيت الشيخ يشرح لمراجع كيفية الرفع للمجلس أو يوضح لأحدهم سبب التأخر في فتح المحكمة في بلدتهم أو معالجة نقص القضاة لديهم وغير ذلك كثير، وليس في قاموس الشيخ فكرة الاستماع لعدد من المراجعين فقط أو لكل مراجع وقت معين، بل يصغي لكل واحد منهم ومن كان له أمر خاص قرّبه الشيخ حتى لا يسمعه أحد. قلت له مقترحًا: لو تم تخصيص موظف لاستقبال المراجعين وتحديد ما يخصكم منها وإحالة بعضها لغيركم أو معالجتها، التفت إلي وقال بلهجة الناصح:" يا محمد هذا عملي أقوم به، وبعدين هؤلاء يأتون من الرياض وخارجها.. تبين أردهم ولا أقابلهم وهم أصحاب حاجة " كان الشيخ ينظر للقضاة نظرة الأب لأبنائه ينصحهم ويذب عنهم ويصلح أخطاءهم ويعاقب مخطئهم، وكان غالب القضاة يرونه شيخهم الجليل ومرجعهم القضائي. وكم رأيت الشيخ يستدعي بعضهم ويحادثه محادثة الأب المحب الناصح وفي المقابل رأيته غاضبًا من أخطاء بعضهم معاتبًا لهم، وقد يستدعي بعضهم لمنزله يناصحه وقد سألته عن ذلك، فقال لو دعوته في المجلس لعلم زملائه وغيرهم فظنوا أنه مخطئ وشاع عنه ذلك. ينظر الشيخ للقضاة بأنهم أصحاب الميدان فهم من بداية يومهم في جلسات قضائية واستماع لبينة وأحكام، ولذا كان يقول لي دائمًا عند الحديث عنهم: " ترى هم اللي يتعبون أكثر منا.. حنا في مكاتب وعمل قليل ". تعامل الشيخ مع القضاة على أنهم في مركب واحد يسيرون بالقضاء سيرته الشرعية، فهم ليسوا خصوم له يفرح بزلتهم أو ينشر أخطاءهم على الملأ، بل هم أبناؤه وقضاته. لم يكن الشيخ رحمه الله يرى أن عمل القاضي هو القضاء فقط، فالتاريخ يشهد أن القضاة كانوا إلى جانب عملهم القضائي دعاة ومعلمين ومصلحين، ومفتين، وأئمة، وخطباء. ولذا كنت أراه يسأل القاضي عن دروسه، وخطبه، ونشاطه الدعوي، والخيري. يقول أحدهم وهو يعمل قاضيًا في بلدة نائية، سألني الشيخ لما زرته عن عملي وأهم القضايا التي في البلدة ثم سألني عن إقامة الدروس العلمية لهم فذكرت له شيئًا من ذلك وذكرت له أن في أطراف البلدة بادية يعانون من شح المياه ويحتاجون إلى حفر آبار مع قلة ذات اليد، فسألني عن تكلفة ذلك ثم قال لعلك تزورني قبل سفرك، فلما زرته سلمني تكلفة حفر بعض الآبار وهو يقول إنها من أحد المحسنين وكنت أعلم أنها منه. للشيخ ذاكرة عجيبة وخصوصًا في عمله القضائي فهو يحفظ اسم القاضي من أول مرة ومكان تعيينه ولو بعد حين وفي ذلك قصص كثيرة ومن ذلك أن قاضيًا تعين في بلدة خارج الرياض لسنوات ثم انتقل للرياض وبعد سنوات زار الشيخ في المجلس مسلمًا فشكى له كثرة القضايا في المحكمة فقال الشيخ مبتسمًا: " وش رايك نرجعك لمحكمة البلدة اللي كنت فيها.. شغلها قليل ". يقول فعجبت من ذاكرته في ذكر اسم البلدة وقد مضى على ذلك سنوات طويلة وهو يشرف على المئات من القضاة والمحاكم. الشيخ وبرنامج الجواب الكافي شرفت قناة المجد الفضائية بمشاركة الشيخ الأولى في برنامج "الجواب الكافي " يوم الجمعة بتاريخ 29/12/1426ه، وقد تلقيت بعد المشاركة ثناءًا كبيرًا من عدد من العلماء وطلاب العلم والمتابعين بمشاركة الشيخ كونه قامة علمية كبيرة فهو رئيس مجلس القضاء وعضو هيئة كبار العلماء. رغب الشيخ في أن تكون له كلمة قصيرة في بداية كل حلقة تذكيرًا وتوجيها على غرار درسه في المسجد الحرام، وقد تم ذلك في كل حلقاته. للشيخ تحفظ على اسم البرنامج كون الإجابة ليست بالضرورة أن تكون كافية وقد طرح ذلك في أول مشاركة له. لم تكن مشاركة الشيخ في البداية منتظمة وذلك بسبب عمل الشيخ وبعض الالتزامات الرسمية وانتقال المجلس صيفا إلى الطائف. ولذا كنت أزور الشيخ في المجلس أو مسجده لتحديد وقت مشاركته، ومما أذكر في ذلك أني زرته مرة في مسجده الواقع على الطريق الدائري الشمالي، وصادف ذلك وقت صلاة المغرب فرأيت قضاة المحكمة الجزائية فعلمت أن لهم لقاء مع الشيخ، فلمّا قضينا الصلاة انتظرت الشيخ عند باب المسجد المقابل لمنزله، فلما رآني ابتسم وقال " الله يعين.. وش عند ابن مقرن اليوم؟ فقلت " يا شيخ ابن مقرن -بحمد الله -ليس قاضيًا، بل مقدم ضعيّف يبي موعد معكم للبرنامج الجمعة القادمة " فضحك الشيخ وقال "ابشر ". ومررت عليه في مكتبه بمجلس القضاء وقد صادف وصولي انتهاء استقبال المراجعين، فطلبت من موظف مكتبه أن يبلغ الشيخ بحضوري، فعاد وهو يقول إن الشيخ لديه عمل سوف ينتهي منه بعد قليل ويستدعيني، انتظرت وطال الوقت ولم يطلب الشيخ دعوتي فلما قارب وقت صلاة الظهر، خرج الشيخ من مكتبه وعليه آثار الوضوء، فلما رآني استذكر موعدي فشعر بحرج شديد وقال متعذرًا :" وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره" فسلمت عليه وقلت مازحًا: " أغظ الشيطان وشارك معنا الأسبوع القادم " فضحك وقال: "بعون الله". ولما تفرغ الشيخ من أعماله، ورغبة مني في ثبات مشاركته في البرنامج، عرضت عليه أن تكون مشاركته ثابته من أول جمعة من كل شهر عدا مشاركته في شهر رمضان وعشر ذي القعدة وتم ذلك بحمد الله. لم يتخلف الشيخ طوال مشاركته في البرنامج أو يتأخر، بل كان حضوره مبكرًا فهو يتوجه من المسجد بعد صلاة الجمعة للقناة، وقد كان هذا الحضور المبكر فرصة وغنيمة لي للجلوس مع الشيخ والحديث معه عن جوانب كثيرة في حياته وأعماله. كان الشيخ يمنع ويرفض المدح في الوجه وذلك لما جاءت به النصوص الشرعية في النهي عن ذلك، ومما أذكره في ذلك أن متصلًا من الجزائر كان فرحًا مبتهجًا أنه الآن يتحدث إلى الشيخ ويقول الشيخ صالح من العلماء الذين نحبهم في الجزائر وأثنى على الشيخ، فرأيت وجهه قد تغير، ثم قاطع السائل وهو يقول لعلك تطرح السؤال. وقد رأيت مثل ذلك في مكتبه عندما مدحه مراجع وأثنى عليه فمنعه الشيخ وقال: " يكفي ..لله يعفو عنا وعنك ". كان رحمه الله داعمًا لكل عمل دعوي يشارك فيه ويساهم في تزكيته ودعمه، وقد كان لقناة المجد نصيب من ذلك فقد كان الشيخ يرى فيها بديلًا نافعًا في ظل كثرة القنوات التي تقدم المحتوى السيئ والمعتقدات الفاسدة، ومما أذكر في ذلك أنه في منتصف عام 1429ه حدث اختلاف بين ملاك قناة المجد تطور وانتشر حتى وصل إلى الصحف. لما علم الشيخ عن الخبر اتصل بي يسألني عن صحته، فأكدت له الخبر، فصمت قليلًا ثم قال بكل تواضع " وش ترى يا محمد؟ " طال صمتي بعد أن خنقتني عبرتي …عالم كبير وشيخ للقضاة يطلب مني وأنا في سن أبنائه الرأي … وخنقتني عبرتي من موقف الشيخ تجاه ما يجرى، فلم يتخذ مكانًا عليًّا أو يقول لا علاقة لي بذلك، بل بادر من فوره لمعالجة الأمر. قلت للشيخ: أنت والد الجميع وشيخهم ولا يصدرون إلا برأيك وتوجيهك فإن رأيتم أن تجتمع بهم لينتهي كل خلاف، فرد سريعًا وقال تواصل معهم الآن وليكن الاجتماع في بيتي مساء الخميس، وقد تم ذلك بحمد الله. طلبت منه ذات يوم أن يكتب في سجل ضيوف البرنامج فكتب هذه العبارات: علاقته بولاة الأمر أدرك الشيخ ستة من ملوك هذه الدولة المباركة كان عندهم بمكانة وتقدير، فهم يعرفون صدقه ونصحه ولذا كان المقرب والمقدم والمستشار. وكان الشيخ لهم محبًا ناصحًا صادقًا، وطوال لقاءاتي بالشيخ كان كثير الحديث عن نعم الله على هذه البلاد ومنها توحيدها على يد الملك عبد العزيز -رحمه الله- وجمعها بعد فرقة، وإقامة الشرع وحماية جناب التوحيد، ولم يشارك في حلقة إلا وتحدث عن ذلك، وكان حريصًا على وحدة الكلمة ونبذ الخلاف والتحزب. كان الشيخ -رحمه الله-حاضرًا في كل مجلس لولاة الأمر وذلك لمكانته وقربه، ولما تفرغ من عمله لم يقطع ذلك حتى أقعده المرض. قال لي يومًا عن علاقته مع الملك فيصل -رحمه الله -: "لما انتهى الحج مررت للسلام على الملك فيصل رحمه الله في قصره قرابة الظهر فقال لي المسؤول هذا وقت لا يستقبل الملك فيه أحد فطلبت منه أن يخبر الملك بحضوري وماهي إلا دقائق حتى جاء الملك فيصل مُرحّبًا وهو يقول:" الشيخ صالح يجي في أي وقت شاء ". وفي موقف آخر يقول: "كانت الحكومة في عهد الملك خالد تنتقل إلى الطائف، فلما بدأت إجازة الحج عدت إلى الرياض فما أن وصلت منزلي حتى بلغني اتصال من الديوان حيث وجهني الملك خالد رحمه الله بالصلاة وخطبة عرفة فعدت من فوري " وهذه الخطبة موجودة اليوم في محركات البحث.
وكان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد يقدر الشيخ ويجله ولا يراجعه في أحكام المجلس حفظًا لهيبة القضاء وثقة بالشيخ . واعتاد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله زيارة الشيخ في عيد الفطر المبارك لمكانته وكذلك فعل في زيارته للطائف. وللشيخ علاقة كبيرة مع الأمير سلطان -رحمه الله – فقد كان دائم التواصل معه وخصوصا في وقت مرضه كثير الدعاء له، وقد رأيت الشيخ متهللًا فرحًا بعودة الأمير سلطان من رحلته العلاجية. وكان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -وفقه الله -كثير الزيارة للشيخ عندما كان أميرًا للرياض وفي الأعياد، ولما تولى الحكم كان الشيخ القريب الناصح حتى أقعده المرض. كما زاره صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير : محمد بن سلمان – وفقه الله -مهنئًا بعيد الفطر المبارك 1442ه. متفرقات * مذ عرفت الشيخ وطوال زيارته في المجلس وحضوره للقناة لم يكن له سائق سوى أبنائه -وفقهم الله وكتب أجرهم-وقد شرفت بمعرفتهم وهم الأستاذ عبد الرحمن ود. فهد. * كان الشيخ رحمه الله يردد هذا البيت كثيرًا حينما يبلغه ضعف وهوان بعض أهل العلم : ولو أن أهل العلمِ صانوه صانَهُم ولو عَظَّمُوه في النفوسِ لَعُظِّما ولكن أهانوه فهانو ودَنَّسُوا مُحَيَّاه بالأطماعِ حتى تَجهَّما * كان الشيخ وفيًا لأصحاب الفضل عليه ومنهم شيخه محمد بن إبراهيم -رحمه الله – فقد كان طالبه النجيب وسكرتيره الخاص ومحل ثقته، عينه رئيسًا لمحكمة الرياض الكبرى وهو في سن مبكرة وذلك لما وجد فيه من علم وقوة وحكمة، ولذا كان الشيخ كثير الدعاء له والترحم عليه ويقول كان لي كوالدي. * لما علم الشيخ بزيارتي لبلدته البكيرية عاتبني كثيرًا وهو يقول: " كيف تروح ولا تعلمني.. السكن والمزرعة موجودة ". * كان الشيخ -رحمه الله- موسوعة عجيبة في التاريخ والتراجم والشعر والأنساب أضافة إلى علم الشريعة لكن عمله القضائي غلب عليه. * تحدث الشيخ في إحدى حلقات الجواب الكافي عن هيئة كبار العلماء وذكر أنه دخل هيئة كبار العلماء في تشكيلها الأول ولم يبق اليوم منهم أحد -رحمهم الله – سوى الشيخ عبدالله بن منيع والعبد الضعيف صالح اللحيدان نسأل الله أن يرحمه ويعفو عنه. * آخر حلقة شارك فيها الشيخ في برنامج " الجواب الكافي " الجمعة 1/11/1432ه * للشيخ تراث عظيم في دروسه وخطبه وفتاويه ومحاضراته ومناقشته العلمية وعمله القضائي، والثقة كبيرة في أبناء الشيخ –حفظهم الله– في جمع ذلك الإرث وانتفاع الناس منه كما قال عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم . يوم الرحيل قبل فجر الأربعاء 2/6/1443ه أيقظني صوت هاتفي وقد تعددت فيه الرسائل تحمل لي التعزية بوفاة الشيخ ورغم علمي بحرج الحالة الصحية للشيخ إلا أن خبر رحيله كان مؤثرًا فقد كان الشيخ مثل والدي -رحمه الله- مكانةً وحبًا وقربًا.. بين الخبر والرحيل يمر شريط الذكريات والمواقف والصوت الشجي واللقاءات ومجلس القضاء الأعلى، وقهوة الجمعة، وبداية البرنامج ونهايته. .. الصمت والظلام والعبرات والدعوات …. يقطعها صوت أذان الفجر يعلن يوم جديد ورحيل شيخ جليل .. في جامع الراجحي ضاق المسجد بالمصلين وتزاحمت الصفوف من رجال ونساء شيوخ وشباب يعزون بعضهم بعضًا في رحيله. ورغم غياب الشيخ عن المشهد العام منذ ست سنوات بسب مرضه فإن الجموع الكبيرة التي صلت أو شيعته إلى قبره تنبئك بمنزلة الشيخ ومكانته في القلوب. رحم الله الشيخ صالح بن محمد اللحيدان وغفر له وتجاوز عنه وجعل الجنة مثواه..