لا يمكن للأنظمة واللوائح والإجراءات وحدها أن تصنع عملًا ناجحًا مبهرًا، كما أن كل التقنيات والأجهزة وخطوط الإنتاج – وإن ساهمت في تحقيق النتائج، وزيادتها والتسريع بها – فلا يمكنها تحقيق النجاح الفعلي والوصول إليه وحدها. إذ أن مردّ تلك النجاحات كلها؛ بل وابتكار تلك الوسائل بأنواعها، يعود إلى "الرجال"! ولست أعني بهذه الكلمة جنس الرجال، وإنما عنيت "الكوادر البشرية" التي هي لبّ المنظمات، وأساسها القوي، وركنها الركين. فالكوادر البشرية يمكنها أن تضع الأنظمة وتطبقها وتتابع تطويرها وتحسينها بما يحقق الهدف المنشود منها، وهي تدرك متى تكون تلك الأنظمة أداة للتحسين أو حجر عثرة أمام العمل. والكوادر البشرية يمكنها أن تبتكر التقنيات وخطوط الإنتاج، وتصنع الآلة، وتوظفها بشكلها الأمثل، وتستمر في تحسينها مرة بعد أخرى؛ ذلك أن الكوادر البشرية مخلوقات غير محدودة القدرات، سواء من جهة الأفكار أو القدرة على الإنجاز. لقد وهب الله البشر من القدرات العقلية وآفاق التفكير والإبداع ما تعجز عنه كل تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تفتقر إلى كثير من المدخلات العاطفية، وأدوات الربط المختلفة، وهي القدرات التي يمكنها أن تخرج لنا من اللاشيء شيئًا مذكورًا. ولأن البشر أعرف الناس بذواتهم وببني جنسهم؛ فيمكنهم – والحالة هذه – معرفة الدوافع والأسباب لتلك المشكلات القائمة؛ ومن ثم السعي إلى حلها، كما أنهم يستطيعون توظيف التقنيات الحديثة، والسرعات العالية، وإمكانات البحث لتحقيق أهدافهم، والوصول إلى مبتغاهم. ولهذا فإن أي نجاح نراه في هذه الحياة؛ يكمن خلفه كوادر بشرية مميزة جعلت النجاح لها هدفًا وعملت بكل جهدها لتحقيقه. فإذا كان لديك فريق عمل مميز؛ فثق أن النجاح حليفك حيثما يممت، ما دمت قد أحسنت اختيار تلك الكوادر التي تعمل معك، وتعينك على الوصول. ولأن الكوادر البشرية بهذه الأهمية والأولوية، فإن واجب القادة بذل غاية الجهد في البحث عن الأشخاص المناسبين، والتحقق من مناسبتهم، واختبار قدراتهم، وقبل ذلك أن يختبروا نفوسهم وأرواحهم وهممهم. فالنفوس المتقدة بالنشاط، المقبلة على العمل، الراغبة في الإنجاز، يمكنها أن تتعلم، وتجرّب، وتخوض؛ وبالتالي تحقق النجاح مرة بعد مرة. ولا يمكن قياس نجاح المنظمات بكثرة "الرجال" فيها، بل بنوعيتهم، فالأعداد القليلة المميزة تصنع الكثير، خلافًا لجموع العاديين. ولا يغيب عنا ذلك المدد الذي طلبه عمرو بن العاص – رضي الله عنه – من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حينما كان يحاول فتح مصر، فرد عليه أمير المؤمنين بكتاب قال فيه: (أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد)، فانظر كيف عدّ عمر – رضي الله عنه – الواحد منهم بألف. والمطلّع على تجارب النجاح العالمية؛ يجد القاعدة ذاتها في كل مرة، فجاك ويلش، اعتمد على اختيار القادة الاستثنائيين الذين جعلوه يصل بشركة جنرال الكتريك إلى القمة بين الشركات العالمية الأكثر شهرة، حيث تميز أولئك القادة بطاقة غير محدودة، تدفعهم للنهوض كل يوم بحماسة شديدة لمتابعة مهامهم، كما أنهم يعرفون كيف يحفزون غيرهم على الإنجاز، بالإضافة إلى امتلاكهم للشجاعة على تحمل مسؤولية الأخطاء التي يقعون فيها، كما كانوا يتسمون بالقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، وحذف "الأعذار" من قاموسهم، وهم – كذلك – ليسوا أصحاب أقوال؛ بل متوجهون نحو التنفيذ، يفعلون ما يقولون، ويحولون الطاقة والحماس إلى أفعال ونتائج ملموسة. ولعلي أختم بما أشار إليه جيم كولينز في كتابه (من جيد إلى عظيم) في حديثه عن القادة الذين يصنعون ذلك التغيير الكبير قائلًا: إنهم يبدأون رحلتهم ليس بالسؤال عن اتجاه الحافلة، بل عن "ركابها". ولهذا حين تم تعيين ديفيد ماكسل مديرًا لشركة ماي في عام (1981)، وكانت الشركة تخسر مليون دولار في كلّ يوم عمل، تساءل عن طبيعة الركاب، أي عن طبيعة الفريق الإداري الموجود، وأهمية أن يكونوا من أفضل الأفراد، لأن أمامهم مهمة شاقة تتطلب الصبر والقدرة والعزيمة في آن واحد؛ وبعد جلسات فردية، ومكاشفة مع ستة وعشرين مديرًا، قرر نصف المديرين التنفيذيين الانسحاب من الرحلة، ليقوم بعدها بتوظيف الأكفاء مكانهم؛ فاستطاع في وقت غير طويل أن يصل للهدف المنشود، ونقل الشركة إلى العظمة. لذا: حيثما كنت وأينما عملت أو أدرت أو أشرفت: اجعل توظيف الكوادر المميزة أولى أولوياتك، وأهم خطواتك، واعتن باختيار ركاب الحافلة الذين تصل أنت وإياهم إلى برّ الأمان. دمتم بخير،،،