جُبلت نفوسنا على محبة من يحسن لنا، أومن يتخلق بالمكارم حتى لو لم نلقه يكفينا سماع خلاله أو قراءتها،فكم لهجت ألسنتنا بالدعاء: (اللَّهُمَّ ارزقنا لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ. فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ). وكم تاقت نفوسنا لرؤية حبيبنا صلى الله عليه وسلم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وكم تشوفت أرواحنا لرؤية أصحابه الكرام الذين فدوه بأرواحهم. وكم تلهفت عيوننا لرؤية أنصار السنة وحماتها الذين بذلوا الغالي والنفيس حتى يجمعوا السنة في كتبهم لتصلنا صافية نقية. وكم تمنينا رؤية جنود الإسلام البواسل الذين ذبوا عن حدوده وساهموا في اتساع رقعته. وكم تمنينا أن نرى فلانا وفلانة ممن لهم قدح مُعّلى في الإسلام أو في نهضة وبناء الأمم. لاغرو أن نحب من لم نره؛ لأنه أحسن إلينا أو سمعنا عن دماثة خلقه،أو عن نتاجه وإنجازه، لكن العجب كل العجب أن نحب من لا نعرف عنه شيئا ولم نره ولم نسمع عنه، بل لم يُخلق له بعد عينين ولا لسانا ولا شفتين! ذاك حب الأم لجنينها حين تُبشر بحملها. ينبض قلبها بحبه.. وتتحرك مخيلتها في رسم شكله وكيف ستكون تفاصيل حياتها معه. وينمو حبها مع أيام حملها ويكبر حبها مع انتفاخ بطنها. حب من أول نبضة.. حب من أول ركلة.. حب من أول صرخة.. حب من أول نظرة.. ذاك حب الأم.. حب غير مشروط.. وحنان ممدود.. وعطاء بلا حدود.. ينمو مع نمو جنينها في بطنها.. ويكبر مع أيامه، وينضج بنضجه، ويُعَمّر لكنه لا يشيخ حتى مع شيخوختها. الأم أمهر إنسانة في قراءة وجوه أبنائها، تستنطق عيونهم حتى لو لم يتكلموا، تشعر بما يعتلج في قلوبهم حتى لو لم ينطقوا، تفهم حركاتهم وسكناتهم، تعرف ما يريحهم وما يزعجهم، بل حتى وإن غابوا عن عينها تحس بكل واحد منهم..رغم أن الحبل السري قطعته الطبيبة أثناء الولادة لكنها لم تقطع إحساسها النابض فلا يزال ممدودا حتى آخر رمق. سعادة الأم في أنس فلذات كبدها وتوفيقهم وراحة بالهم، وحرها ولهيبها في حزن أحدهم أو مرضه أو ابتلائه. تذوب المعاني في تنور حب الأم المشتعل، وتتقازم حروف اللغة عند الحديث عن رحمة الأم، وتفغر أفواه الدهشة حيال تضحياتها لأجل أبنائها،إلا أن الحقيقة الحاجبة لسحائب الدهشة في سماء القلوب لتملأها صحوا، فمن أبصر لُطف الأم وهي تُطوق أبنائها بذراع الحنان، وتُدثرهم بمعطف الرحمة، طَمعاً في رحمة ربه وكريم هباته، فلله أرحم بنا من أمهاتنا وآبائنا. قال صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي وجدت صبيها في السبي فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قال الصحابة رضوان الله عليهم: لا والله! وهي تقدر أن لا تطرحه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها.متفق عليه. فالحمد لله الذي لا رب لنا غيره ولا إله لنا سواه، أحببناه ولم نره لكنه بصرنا بجوده وفضله ودلائل معيته.