جَرت العادة في مُعظم بلاد العالم أن يعود الطّلاب إلى مدارسهم بعد دخول شهر سبتمبر حيث نهاية عطلة الصيف وإشراقة عام دراسي جديد. وأكثر من يتهيأ ويستبشر بهذه العودة الحميدة هم المدرّسون الأفاضل بناة جيل المستقبل وجنود الوطن المجهولين. وقد أكرمني الله بمشاركة زملائي المدرّسين هذه الفرحة السنوية الاستثنائية خمس مرات في عمري عندما بدأت حياتي الوظيفية مدرّساً بالمرحلة الثانوية عام 1410ه. واليوم وأنا أكتب مقالي هذا تطوف بي ذكريات جميلة مع مهنة التدريس فهنالك لا تشعر أنك موظف بالمعني المعروف أي إنسان لك راتب محدد وأوقات عمل محدودة وعلاوات وترقيات سنوية، فكل هذه الأمور تتلاشى أمام عينيك كمدرس لاستحضارك نُبْل رسالة التعليم وثقل أمانته وعظيم أجره لدرجة أنك مع شغف المهنة تنسى نفسك وصحتك ومستقبلك. إنّ البيئة المدرسية المتنوعة المواقف تعيد تشكيل شخصيّتك فتجبرك لا إراديًّا على تقمّص عدّة أدوار وظيفية تشعر معها بالثراء الروحي والبَدَني والمعرفي.. فأنت كمعلّم تشعر تارة أنك أب فتراعي طلّابك وكأنهم ذريّتك فتكافئ مُحسِنَهُم وتقوّي ضعيفهم وتَسعَد لفرحهم وتبكي لمصاب أحدهم وتهتم لمستقبلهم وتلاعبهم وتضاحكهم وتتنزّه وتسافر معهم. وأنت كمعلّم ترى نفسك تارة وكأنك ضابط في كتيبة عسكرية تدرّب طلابك على الانضباط وتعوّدهم الحزْم وتزرع فيهم الصبر على أداء الواجبات وجَلَد العيش وتحمّل المتاعب. وتارة تتقمَص دور الطبيب فتصحّح قعودهم وتعدل مشيتهم وتهتمّ بصحتهم وترشدهم في تغذيتهم وتشجّعهم على ممارسة الرياضة وتراعي نظافتهم وطهارة أبدانهم وثيابهم وتدرّبهم على قواعد الأمن والسلامة. وأحياناً ترى نفسك في مهنة التعليم كأنك مهندس فنشاطاتك تحتاج إلى إعداد وتخطيط وتقدير وتوقّع للنتائج ووضع معايير ومقاييس لتقييم جودة الأداء وغرس مفاهيم القيادة وروح الفريق الواحد في طلّاب فصلك. أمّا أحلى الأدوار التربويّة التي استمتع بها أمام طلّابي عندما أقوم بدور الممثّل فأتصنّع الغضب ساعة الجدّ والمحاسبة وأتصابى معهم ساعة اللّعب والتسلية ولا أنسى ذلك الموقف الطريف أثناء خدمتي التعليمية عندما كُنت رائد فصل إذ لاحظت ذات يوم انهزام فريقي أثناء فسحة المدرسة خلال دوري كُرة القدم، فتعاطفت مع طلّابي الذين أثرت فيهم خسارة فريق فصلنا، فناشدوني التدخّل بصفتي المدرّب الفني للفريق فتلبّست الدور وهرعت صوب اللجنة الرياضية مقدماً اعتراضا شديد اللهجة على هذه النهاية الظالمة للمباراة، فقررّت اللّجنة وقتها إعادة المباراة “الله أكبر ولله الحمد”. وبِحُكْم ظروف البيئة المدرسية المحيطة يبدو المعلّم غالباً بشخصية متعددة المواهب ومتقلّبة المزاج ومفعمة بالحيوية وتنوّع الطاقات، كما أنّ ديناميكية الحياة المدرسيّة تجعل المعلّم في تطوّر مستمر دائم على مدار العام وفي جميع مجالات الحياة، وذلك لحاجة المعلّم كثيراً للإعداد النّفسي والتحضير المعرفي والتزام القيادة التربوية. وختاماً نقول يكفي المعلّم شرفاً أنه يقوم بمهمّة الأنبياء والمرسلين وعمل الأئمّة المهتدين الذين يعلّمون النّاس الخير ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، وقد جاء في تفسير قوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) أي معلماً للخير. فالمعلّم أمة في واحد، وهو واحد لكنّه بوزن أمّة. تحيّاتي لإخواني المعلّمين الأعزّاء، وكتب الله لكم الفضل والرّفعة والأجر في هذا العام الدراسي الجديد ورزقكم الله شُكْر هذه النعمة الجليلة القدر. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )).