ب – شبهة تعارض الدين مع العلم. في المقال السابق تطرقنا إلى شبهة يرددها الملاحدة وغيرهم، أن ثم تعارض بين الدين والعلم، واليوم نعرض بعض مقولاتهم والرد عليها، على أن نكمل ذلك في مقال قادم. يقول أحدهم: (لا أعرف لماذا أصحاب القرآن دائما ما يريدون أن يثبتوا صحة كتابهم بتمسحهم بالعلم وهم بعيدون كل البعد عن العلم والعلماء ). و يقول آخر: ( العلم والدين لا يتفقان ؛ لأنه في محاولة الجمع بينهما، سيُضطر إلى تشويه الحقائق العلمية لتبرير الخرافات الدينية ). ويقول ثالث: ( كنت محتاجاً إلى تناقضات علمية صريحة واضحة، فتكون دليلاً دامغاً على عدم صحة هذا الدين، ولما قمت بالاطلاع أكثر وجدت ما كنت أبحث عنه، وقتها قمت بترك الإسلام مطمئن البال. فوجود أخطاء رهيبة، بل وعديدة بين الإسلام والحقائق العلمية لا يجعله من عند الخالق، إن كان موجوداً أصلاً ). و غيرهم الكثير. الجواب عن ذلك: في البداية نطرح تساؤلاً لأصحاب هذه الشبهة، أي دين تريدون ؟ وأي علم تقصدون ؟ هل تريدون كل الأديان ؟ وهل كل العلوم تتناقض وتتعارض مع الأديان ؟ إن أردتم كل العلوم، فأنتم لا تعتبرون إلا العلم القائم على التجربة والمشاهدة، فعليه ليس مقصدكم كل العلوم. وإن أردتم أن العلم يعارض كل الأديان، فحكمكم قاصر، حيث يجب أن يصدر هذا الحكم عن علماء كل العلوم باختلاف أنواعهم ومشاربهم، ولا يكون عن عدد محدود من علماء علم معين، لا سيما وأن علمكم الذي بنيتم عليه هذا الحكم، علم يقوم على التجارب، وهذه قد تصدق وقد تكذب. ونحن نرى اليوم نتائج علمية قامت على تجارب ثم نرى غداً قولاً يناقضها، فكيف نجعل مثل هذا النوع من العلوم حكماً على الدين، وهو علم متغير غير ثابت، فما ثبت منه اليوم، يُنقض غداً. وهناك أمر أهمله المثيرون لهذه الشبهة وهو أن المهتمين بهذا الأمر هم من العلماء الكونيين – أي ما يتعلق بالكون والطبيعة – وليسوا من المختصين في علم الأديان، وهم مع ذلك ينطلقون من خلفية نصرانية أو يهودية، ويناقشون مسألة الدين بالعموم. فالقصور في هذه الشبهة من عدة جوانب منها: 1 – أن العلم الذي جعلوه حكماً، علم تجريبي متعلق بالكون والطبيعة. 2 – أن مَن أثار هذه الشبهة، ليس لديه علم بالأديان فحكمه قاصر. 3 – أن حكمهم جاء عاماً لجميع الأديان مع أن انطلاقته كانت من أناس يدينون بالدين النصراني أو اليهودي، فكيف أدخلوا الأديان الأخرى ومن ضمنها الإسلام ؟!. فبناء عليه فالشبهة ساقطة من أساسها ؛ لأنها شبهة لم تقم على أصول ثابتة، وإنما على علم محدود، من خلال ردة فعل ناتجة عن رفض دين نصراني أو يهودي. ومع ذلك فنذكر رداً من خلال عدة محاور: المحور الأول: هذه التهمة أو الشبهة أساسها ردة فعل سببها الصراع الذي حصل بين العلم والدين النصراني في أوروبا والذي ترك آثاراً سيئة، فإن النصرانية لما سقطت في طائفة من المفاهيم الباطلة، الدخيلة على أصل الدين، والمناقضة لأصول العقل والدين الصحيح، أرادت التخلص من ورطتها هذه بمقولتها الشهيرة: ” الدين لا يخضع للعقل “، وأطلق علماؤهم كلمتهم المأثورة: ” أطفئ مصباح عقلك واعتقد وأنت أعمى “.فكان هذا منهج النصرانية المحرفة. ولم تكتف الكنيسة بذلك بل حرمت التفكير في مسائل الدين، والنظر والتأمل فيها، وأوجبوا على أتباع الكنيسة أن يسلموا تسليم الأعمى بالإله الذي هو ثلاثة في واحد دون مناقشة فصادموا العقل السليم الذي يرفض قصة التثليث رفضاً قاطعاً، ولا يمكن لأحد أن يسلم به إلا إن عطّل عقله. لذا حاولت الكنيسة إغلاق باب العقل والبحث العلمي نهائياً عن المسائل والنصوص الدينية، حتى المسائل المتعلقة بالكون الذي تستطيع الوسائل الإنسانية أن تصل إلى معرفته. عطلتها وحاربت من يتكلم فيها، بل أقامت الكنيسة محاكم تفتيش وصلت إلى التعذيب والقتل لكل مخالف لتعاليم الكنسية، فكانت البلاد النصرانية في تلك الفترة من القرون الوسطى في ركود وتزمت مطلق، وتوقف البحث العلمي، ليس بسبب التوراة والإنجيل، وإنما بأيدي هؤلاء الذين يدعون أنهم خدام التوراة أو الإنجيل. لقد كان للكنيسة طغيانا شمل أنواعاً من الطغيان: الطغيان الديني، والطغيان العقلي، والطغيان المالي، والطغيان السياسي، والطغيان العلمي. لقد فرض الطغيان العلمي للكنيسة على العقول ألا تفكر في أمور الكون المادي بما تقتضيه الملاحظات والمشاهدات العلمية، وأن تلتزم بالتفسيرات الكنسية. وقد فُسر هذا الطغيان الكنسي بأنه الخوف على كيانها الذي يقوم على الخرافة ويستند إلى انتشار الجهل بين الناس، وأنها خشيت على هذا الكيان المحرف أن يتصدع وينهار إذا انتشر العلم، وتبين للناس أن ما تقوله الكنيسة ليس هو الحقيقة في كل شيء. الجانب الثاني: أنه إذا وجد تناقض بين العلم والدين، فلا يخلو من ثلاثة أمور: الأول: أن يكون ما نسب إلى العلم لم يصل إلى مرحلة العلم المقطوع به، كالنظريات التي لم تتأكد بعد، وما زالت مرهونة بالبحث والنظر. أو أنه أمر لا سبيل إلى إثباته بأدلة علمية يقينية قطعية، وإن اعتقد العلماء الماديون صحتها لعدم ما هو أقوى منها في نظرهم المادي، وقد يكون ما يبحثون عنه جاء به الدين لكنهم يرفضون ذلك نفسياً لما في قلوبهم من بُغض ونفرة من الدين. الثاني: أن يكون ما نسب إلى الدين لم يصل إلى درجة القطع به في نقل النص الذي تضمنه، فقد يكون النص غير صحيح النسبة، كأن يكون مكذوباً، أو ضعيفاً لا يصح الاعتماد عليه. الثالث: أن يكون الخلل في فهم النص من قبل بعض المجتهدين الذين فهموا النص فهماً خاطئاً. فعليه فلا تُحمل النصوص الدينية جريرة هذا الخطأ، فلا يخلو أن يكون رأياً لمن قاله حسب ما توصل إليه اجتهاده وفهمه. فمن نظر إلى النصوص الدينية نظرة الباحث عن الحقيقة، وجعل هذه الأمور الثلاثة نصب عينيه استبان له الحق ؛ لأنها كالميزان، والطريق الذي يوصل إلى الحق. أما المحور الثاني وهو النظر في النصوص الإسلامية نظرة الباحث عن الحق، فنناقشه في المقال القادم.