الاستدامة لفظ رنان، وكلمة تصلح للتشخيص بها في أي عرض يتم تقديمه، أو فيلم أو تقرير أو نشرة تعريفية، فالقارئ للفظ كهذا يشعر أنه يتعامل مع جهة تحيط بالمستجدات المعاصرة، وأنها منظمة عصرية مدركة لواقع العمل المحلي والدولي. ومفهوم الاستدامة في أصله كبير وواسع جداً؛ إذ يشمل كل نواحي الحياة، وإن كان في الأصل “مصطلح بيئي” يتناول أساليب ضمان الحفاظ على استمرارية الموارد الطبيعية، وعدم الإخلال بها من خلال الممارسات الخاطئة. وتستخدم عبارة “الاستدامة” في القطاع غير الربحي، لتصف المنظمة القادرة على الحفاظ على نفسها على المدى الطويل؛ مما يديم قدرتها على الوفاء بمهمتها، وهي تشمل “استدامة المورد البشري” من حيث التخطيط لتعاقب القيادات، والإبقاء على الطاقات البشرية، واستمرارية تواجد الأكْفَاء في المنظمة، كما تشمل القدرة على التكيف مع المتغيرات النظامية والاجتماعية، بالإضافة إلى التخطيط الاستراتيجي الذي تسعى فيه المنظمة لمعرفة واقعها الحالي، ووجهتها المستقبلية، والمخاطر والفرص التي تواجهها. كما تشمل: “الاستدامة المالية” التي تعرّف بأنها (الحالة المالية التي تكون فيها المنظمة قادرة على الاستمرار في تحقيق رسالتها الخيرية على المدى الطويل)، وأن تعرف المنظمة تكلفة برامجها وخدماتها وأنشطتها المختلفة بما يمكّن من جمع الأموال الكافية لتغطية تلك الأعمال. ولا شكّ أن السعي لاستدامة الأعمال النافعة مطلب نبيل، وهدف جميل، غير أن المبالغة في أي شيء تنقلب إلى ضدّه، فيصبح الحسن من جراء المبالغة غير حسن. ووفقاً لما رأيته في السنوات الأخيرة من ممارسات، فقد رأيت تطرفاً ومبالغة وإكثاراً من الحديث عن مفهوم “الاستدامة” في القطاع غير الربحي، وإقحام هذه المفردة في كل موضع، كما رأيت ردّة فعل غير متزنة وإفراطاً في التوجه نحو “الوقف” باعتباره النموذج الأوحد للاستدامة! وانصرافاً عن المشروعات الحقيقية التي يحتاج إليها المجتمع تحت ذريعة أنها تنفذ ثم تنتهي فلا يستمر تأثيرها! وبات لدى (بعض) العاملين في القطاع توهّم بأن الموارد المالية ربما تنضب، وأن التبرعات ربما تتوقف؛ وبناء عليه فيجب العمل على إيجاد (أوقاف استثمارية) تغطي كل مشروعات الجهة دون الحاجة إلى التبرعات، مع شعور بأن الزمن يمضي فلا بد من استنفار الجهود! وهذا الوهم مبني على مجموعة من المقدمات الخاطئة ومنها: أولها: أن (التبرع) عملية مؤقتة وسوف تتوقف يوماً ما، فلابد من التدارك، مع أن تاريخ البشرية كله يؤكد أن العطاء والتبرع هو جزء من الطبيعة الإنسانية، وأن التبرعات مستمرة رغم كل الظروف والمعطيات.. وأن توقع التوقف هذا مخالف للتاريخ والواقع. وثانيها: أن (ضمان الموارد المالية) للجهة غير الربحية مهم جداً في كل الظروف لأجل تأدية رسالتها بجودة وإتقان، والواقع يثبت أن مجرد ضمان الموارد المالية غير كافٍ في ضمان قيام العمل، ولا جودته، ولا تأثيره، بل ربما أدى ذلك الضمان إلى صرف الكثير من الأموال في مشروعات لا تلامس الاحتياج الفعلي. وأن من العوامل التي تضبط الأداء وتدعو لفعاليته هو التواصل المستمر مع المتبرعين، الذين هم جزء من المجتمع، يدركون تأثير هذه الجهة أو تلك، ويقررون بناء على النتائج مدى الحاجة لاستمرار الدعم أو إيقافه. وثالثها: أن مرور السنين يجعل الناس يحجمون عن دعم الجهة غير الربحية، ويبحثون عن جهات جديدة، والحقيقة أن مرور الزمان هو عامل توثيق للجهة، ودليل تزكية لها، شريطة أن تكون منظمة متجاوبة مع الاحتياج، مرنة في التغير وفق المستجدات؛ ذلك أن المتبرعين متى شعروا أن الجهة لا تعمل في مواقع الحاجة، أو لا تتجاوب مع الاحتياجات الجديدة للمتبرع والمحتاج، فمن الطبيعي أن يبحثوا عن جهة (جديدة) تشبع رغبات المستفيدين. إن الإفراط في إنشاء الأوقاف التابعة للجهات غير الربحية يدفع بمئات الملايين من الريالات نحو التجميد في عقارات هنا وهناك؛ وهو تجميد طويل المدى للكثير من الأموال المتوفرة بأيدي المتبرعين؛ وهو يتضمن تأجيلاً لإنفاقها في المصارف الآنية الأكثر حاجة، مع مسيس حاجة الناس إليها؛ وهو حرمان للمستفيدين الحاليين بانتظار مستفيدين في المستقبل البعيد! هذا فضلاً عن ورود احتمالات متنوعة حول مدى نجاح الجهة في تحديد نوع ومكان وكيفية (الوقف)، وجودة الاختيار أو الإنشاء، وجودة إدارته، وتبعات ذلك كله على الجهة لأنها – والحالة هذه – تعمل في مجال وتخصص خارج عن نطاق تركيزها وتخصصها الدقيق. وختاماً؛ فإنني أشيد بالرجال الباذلين أوقاتهم وجهودهم في المشاريع الوقفية، الذين يعملون – دون ريب – بنوايا طيبة، ومقاصد حميدة، وهم مشكورون مأجورون بإذن الله، وأهمس في آذانهم قائلاً: إن إنفاق المال مباشرة على أوجهه المشروعة أولى من تكديسه للاستثمار، وأن مهمة الجهة غير الربحية تكمن في (الإنفاق)، وليس (الاستثمار). وتذكّروا – يا أحبتي – أن النبي ﷺ حين بعث معاذاً إلى اليمن أوصاه، فقال في وصيته التي أخرجها الشيخان: (إن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم)، فليكن دور الجهة غير الربحية – إذاً – إيصال تلك المبالغ إلى مصارفها وفق الأولى والأحوج، وليس استثمار تلك الأموال ثم إعادة إنفاق ريعها على مصارف الخير. دمتم بخير،،. محمد بن سعد العوشن إعلامي مهتم بتطوير الذات والعمل الخيري @bin – oshan