رن هاتفه وجاء الصوت من الطرف الآخر ليخبره أنه مكلف بإيصال هدية من بيل غيتس، بيل غيتس صديقه الذي يعتبره من دائرته المقربة، تساءل هو في نفسه: ماذا يمكن أن يهديني بيل؟ هل يكون جهاز الشركة الجديد؟! أو إصدار برمجي حديث؟ ولم يكن ثمة وقت لمزيد أسئلة، فماهي إلا دقائق حتى وصله صندوق كبير ما إن فتحه حتى تفاجأ بمجموعة أنيقة من الكتب الورقية عن الحياة والأدب والإيمان مع بطاقة صغيرة كُتِبَ عليها: (هذه هي الكتب التي اخترت قراءتها هذا الصيف، وأحب أن تشاركني القراءة. صديقك بيل). كانت هذه القصة التي رواها أحد أصدقاء بيل غيتس هي الخيط الأول الذي قررت الإمساك به لأصل في نهاية المطاف إلى فكرة مدهشة، فصدمة تمسُّك أحد أساطين التكنولوجيا بعادة القراءة في الكتب الورقية لدرجة أن يبعثها كهدايا دفعتني لتتبع سيرة بيل غيتس وقراءة كتاب (Bill Gates Speaks) للكاتبة (Janet Lowe) التي أوردت طرفاً من عشق بيل غيتس للكتب وأنه لا يظن أنها تستبدل بأجهزة الحاسب أبداً! وأنه حينما أراد ضرب أمثلة قال: (سيكون لأطفالي أجهزة الحاسب الخاصة بهم، ولكن سيكون لديهم الكتب الخاصة بهم قبل ذلك)! ولم يكتفِ غيتس بضرورة أن يكون لكل فرد من أبنائه رحلة خاصة مع الكتب، بل زاد على ذلك ومنعهم من أن يكون لهم هاتف خاص قبل سن الرابعة عشرة! هنا تتحول رحلة بحثي إلى اتجاه آخر تماماً، فبدلاً من أن يكون السؤال كيف يفكر بيل غيتس؟ يصبح: كيف يتعامل (أساطين ومخترعو التكنولوجيا في العالم) مع التكنولوجيا التي يخترعونها؟ وإلى أي مدى سمحوا لها في التأثير على أنفسهم وعلى أطفالهم؟ وما هو الحل الذي حرصوا عليه ليعيشوا وأبناؤهم حياة تسير بطريقة تمكنهم من مواصلة النجاح والتركيز؟ تتالت الإجابات الصادمة أمام ناظري وبت أكثر ذهولاً، وكان السبق ل(بيل غيتس) – مؤسس مايكروسوفت – ثم جاء دور (ستيف جوبز) – مؤسس أبل – الذي رد على سؤال أحد الصحفيين عن ما إذا أحب أطفاله الآيباد الجديد؟ بقوله: (أطفالي لم يستخدموا الجهاز بعد)، وعقب بأنه يفضل أن يعيش الأطفال في بيئة تخلو من الاختراعات التكنولوجية لآثارها السلبية عليهم! ورغم الوكالات العالمية تناقلت تصريحاته حتى بعد وفاته لتحاول إظهاره بمظهر المتناقض، إلا أن ثمرة ما قام به كانت دلالة على صحة موقفه أن إحدى بناته أصبحت كاتبة موهوبة ومعروفة. موقف أكثر شجاعة يتخذه (فيليب شيندلر) – رئيس في جوجل – حيث قام في مؤتمر نظمته جوجل بإهداء الوفود كتاباً بعنوان: (الصمت في عصر الضوضاء)، كما كشف عن حرصه على أن يأخذ أسرته بين فينة وأخرى إلى رحلات تخييم في مناطق لا يصلها الإنترنت في البرية الأمريكية ليستعيدوا الحياة! هل ما زلت غير مقتنع بضرورة التوقف عن القراءة والتأمل فيما سبق؟! خذ هذه المعلومة إذن: (إيفان ويليامز) – مؤسس تويتر – لا يختلف عن كل من سبق، فهو يقول بأنه لا يفضل القراءة من على الأجهزة اللوحية، ولا يفضل أن ينشأ أطفاله معتمدين على القراءة الرقمية، وأنه يمتلك مكتبة عملاقة من الكتب يعتمد هو وزوجته عليها في تدريب أولادهما على القراءة "الحقيقية"! نتوقف في رحلتنا عند (زوكربيرغ) – مؤسس فيسبوك – الذي ينشر بشكل دوري قائمة كتبه المفضلة عبر الإنترنت مؤكداً أهمية الفرار من التشتت الرقمي بالركون إلى عالم الكتب، لنراجع أنفسنا وكيف أن (أساطين التكنولوجيا) يتجاوزون فكرة خوض معركة المنع المجرد من استخدام التكنولوجيا، إلى الترغيب في القراءة بأن تبدأ بنفسك وتوقف هدر عمرك ثم تلتفت إلى أطفالك لتنقذهم من جناية نار التقنية على عقولهم الغضة وقلوبهم الصغيرة! خطورة الإنترنت والشبكات الاجتماعية في الأجهزة التي لا يكاد يخلو منها بيت، تتركز في (تجميد العمر) حيث يصبح الشخص مثل من يتواجد في مكان يكتظ بالأصوات والضجيج وهو مضطر للالتفات لكل من يناديه بسبب أو بلا سبب، وهذا ينتهي بإنهاك العقل والعاطفة وتأخير نموهما الطبيعي، بينما قراءة الكتب وخوض التجارب تعيد التركيز المتفتت وتمنح الشخص لذة خوض تجربة متكاملة بعيداً عن القفز على التجارب. إن وضعنا لخطة نعيد فيها أنفسنا وأطفالنا للقراءة يحمينا من الاكتفاء ببدايات لانهاية لها، حيث تبقى التجارب الإنسانية لضحايا الهواتف والإنترنت، مثل روايات متعددة يبهرك غلافها ولكنك تتفاجأ كلما فتحت صفحاتها بأنه لا وجود إلا للفصل الأول! بينما تبقى الفصول الباقية مؤجلة للأبد! فلا نراوح أماكننا، وتبقى أعمارنا متجمدة بشكل مؤلم يختصره الشاعر فاروق جويدة بقوله: تتجسد الآلام في أعمارنا! لا شيء نعلم في الحياة! وليس تعنينا الحياة! فالعمر يبدأ هاهنا.. ثم يبلغ منتهاه! [email protected]