بقلم: فيض فاطمة شابة ترملت بعد سنوات قليلة من حياة زوجية سعيدة، ثمرتها طفل كرّست حياتها له، تتنفسه حبا خالط عليها نبضها، تراقب حركاته وسكناته، هو عالمها ومستقبلها، تبنيه بدماء قلبها، تخطط له، آمالها معلقة به، تنام وتصحو عليه، لا تستسيغ نكهة طعامها قبله، ولا تخلد للنوم إلا بعد أن يغطّ في نوم عميق، تورق أيامها خضرة وجمالا وهي تراه يترعرع أمامها، تراه ماضيها وحاضرها ومستقبلها، هو تفاصيل أيامها .. كبر عمر أصبح شابا يناقشها، تقنعه مرة وتأخذ برأيه مرات، تحاوره وتطيل حبا وإعجابا، تملأ فراغ روحها وتروي عطش عاطفتها فتكتفي به، صنعت منه رجلا يعشق التحدي بما كانت تردد على مسامعه أمانيها وأحلامها أن يكون ضابطا بطلا مغوارا في الذود عن وطنه، ينام ويستيقظ على أمنيات والدته، وليس كل الأمنيات تتحقق إذ لم يستطع أن يلتحق بكلية عسكرية فاختار طريق التدريس..! كثيرا ما استرجع عمر حماس والدته وهي تتحدث وكأنها تنظر للمستقبل! فتراه فارع الطول، تتكيء على كتفه فتأمن، وحين تخرج الحروف من فمها إليه كأنما هي قلوب تنبض بالحب والحياة تطير لتستقر في سويداء قلبه.. أصبح عمر رجلا يعتمد عليه، وكان لابدّ أن تبحث له عن زوجة، هي تعلم جيدا أنها ستأتي لتقاسمها قلبه! لابأس.. وتدرك أن جزءا من روحها قد تسكن جسد غريب! وأيضا لا بأس، المهم أن يرفرف بأجنحة السعادة، أن يحلق في سماوات الفرح، أن يضحك، أن يعيش نفس مشاعرها نحوه حين يرزق بطفل.. جلست معه ذات مساء، وتحدثت إليه واستشارته في إحدى الفتيات التي تقرب إليها من بعيد، تردّد عمر وقال إن الوقت لا زال مبكرا، ولكن وتحت إلحاح والدته وافق وكان لها ما أرادت.. تزوج عمر الفتاة الأنيقة الرقيقة، وسكن معها فأضحت والدته تقرأ عناوين السعادة والحب في عينيه ليل نهار فيرقص داخلها فرحا.. زوجة عمر أدركت مكانة والدته في قلبه فحاولت أن تتقرب إليها وأحبتها حتى أصبحت ابنة لها، فلا تخرج إلا معها ولا تنام حتى تدخل أم زوجها غرفتها وتستمر بهم عجلة الحياة.. يرزق عمر بطفل يشبهه كثيرا، فرحت به والدته وتعلق قلب عمر بالصغير حتى كاد أن ينسى بعض تفاصيل والدته..! إذ لم يعد كما كان حين يدخل المنزل بعد عودته من عمله فيتجه إلى باب غرفة والدته يطرقه ليطمئن عليها إن لم يجدها أمامه في مكان جلوسها المعتاد..! أصبح يدخل ويده محملة إما بلعبة، أو كيس من الحلوى للصغير، يدخل وصراخه يسبقه ينادي على رائد مما جعل زوجته اللطيفة تنبهه أكثر من مرة إلى ما يجب فعله..! فوالدته طال صمتها رغم تبسمها وفرحها بصغيرها، لم يلحظْ عمر أن حركة والدته ضعفت، وأن وجهها اكتسى بالشحوب والاصفرار، كانت الأم تعاني في صمت فلم ترغب في تكدير صفو حياة عمر وعائلته الصغيرة، إلا أن حياة زوجة عمر كانت تلاحظ ذلك.. وذات صباح لم تخرج الأم من غرفتها فتقدمت حياة نحو الباب على استحياء وحرج، وطرقت الباب وسمعت صوت واهن ضعيف من الداخل يدعوها للدخول، دخلت حياة وإذا بالأم في فراشها وأسرعت نحوها حياة: أمي ماذا حلّ بك؟ هل أنتِ متعبة؟ فحاولت الأم أن تتظاهر بالقوة وتحاول النهوض وقالت: لا تقلقي، قليل من الإرهاق ولم تكمل إذْ خارت قواها، وشعرت بغثيان كادت تخرج معه روحها من جسدها، أسندتها حياة وهي تتمتم لا تتحركي يا أمي سأتصل بعمر ليأخذك إلى المستشفى، ورغم محاولة الأم منعها خوفا على عمر إلا أن حياة كانت أسرع حركة، فنهضت بخفة وانطلقت تتناول الهاتف لتتصل بعمر الذي مالبث إلا وقد قدم ليحمل والدته وينقلها على عجل للمستشفى، وحين استكمل الطبيب الفحوصات قرر أن يبقيها في المستشفى تحت الملاحظة، وأمسك بيد عمر وخرج به في الممر المقابل لغرفة الطوارىء وتحدث إليه قائلا: عمر ألم تكن والدتك تتناول أدوية قبل هذا؟ أجاب عمر في توتر: بلى، لأنها تعاني من آلام في المعدة.. تنحنح الدكتور وتردّد قليلا ثم قال: والدتك يا عمر تعاني فشلا في الكبد و… وكتم عمر صرخته وهو يقول: ماذا ؟! فشل في الكبد؟ منذ متى وكيف و .. وقاطعه الطبيب : يبدو أن والدتك امرأة صبورة فلم تفصح و.. وهنا تدحرجت دمعات من عيني عمر، فربّت على كتفه الطبيب وطمأنه أن العلاج يتطلب متبرع بجزء من الكبد ولابد من تطابق الأنسجة لضمان نجاح العملية وغادره الطبيب..! دارت الأرض بعمر، وبحث عن أقرب مقعد ليتهاوى عليه وبكى كما لم يبكِ من قبل، وعاد شريط حياته سريعا أمام عينيه منذ أن كان طفلا حتى لحظته… عاد عمر إلى المنزل دون والدته واستقبلته حياة بلهفة: أين أمي يا عمر؟ -إنها متعبة وأبقاها الطبيب تحت الملاحظة وغرق في صمت..! عادت حياة للسؤال: ومن بقي معها يا عمر؟ أجابها بصوت مخنوق: لا أحد خرجت حياة من الغرفة وتوجهت إلى غرفة الأم ورتبت لها بعضا من ملابسها في حقيبة صغيرة ثم عادت لتدلف إلى غرفتها وترتب لها أيضا حقيبة صغيرة ثم عادت إلى حيث يجلس عمر وبلهجة آمرة لا تردد فيها قالت: خذني إلى أمي.. رفع عمر رأسه ونظر إليها في دهشة وقال: ولكن البيت والصغير..! ولم تتركه يكمل وقالت الصغير بجانبك أنت، والبيت لا ينقصه شيء خذني إلى أمي فأنا اعرفها متعبة وخجولة.. رافقت حياة مع أم عمر، كانت تحاول أن تخفف عنها وتساندها وهي ترى كثرة التحاليل والفحوصات المتكررة والتي لن تجدي نفعا مالم يكن هناك متبرع بجزء من الكبد..! مما استدعى عمر لأن يخضع للفحوصات ذاتها على أن أن ينقذ والدته، إلا أن النتائج لم تتطابق مما زاد في ألم عمر وزوجته النفسي خوفا على الأم.. وذات ليلة، وبينما حياة تجلس بقرب الأم الممددة على سريرها بالمستشفى، اشتد الوجع بالأم وعلا وجهها اصفرار مخيف، واعترى جسدها رجفات عنيفة وتعرق وغثيان، حتى كادت أن تغيب عن الوعي..!وحياة بجانب الممرضات تدعو الله أن يخفف عنها ويشفيها، لتمر الأزمة بسلام وتهدأ نفس حياة وتقف على سجادة الصلاة لتبدأ في صلاتها وتطيل.. وفي أولى سويعات الصباح نهضت حياة وألقت نظرة على والدة زوجها ثم خرجت من الغرفة وقد اتخذت قرارها.. توجهت إلى غرفة الطبيب المسؤول وقدمت نفسها إليه: أنا حياة زوجة عمر ابن المرأة التي تنام في الغرفة ٤ في الطابق الثالث أرغب في إجراء التحاليل لعل أنسجتي تطابق أنسجتها فأتبرع لها بجزء من كبدي.. رحب بها الطبيب، وأكبر فيها تضحيتها وأوضح لها المخاطر وكل مايلزم فعله، وبعد إصرارها استدعى إحدى الممرضات لتقوم بما يجب.. ذهبت مع الممرضة إلى غرفة صغيرة وسألتها الممرضة: هل المريضة والدتك؟ فهزت رأسها بالنفي قائلة: بل أم زوجي، توقفت الممرضة عن غرز إبرة في يد حياة ونظرت لها بدهشة وتساؤل: أم زوجك؟ -نعم أم زوجي بمثابة أمي أهدتني مهجة فؤادها وأنا لا أحتاجه أفلا أهديها جزءا من كبدي وهي تحتاجه؟ ابتسمت الممرضة وأكملت عملها.. مضت الأيام وحياة تترقب نتائج فحوصاتها حتى أقبل عليها الطبيب ذات صباح وقال: – هاه حياة ألا زلت مصرة على التبرع؟ – نعم يا دكتور وما عملت التحاليل إلا مقتنعة ومفوضة أمري لله – إذن استعدي لإجراء العملية صباح بعد غدٍ – هل حقا يا دكتور هناك تطابق؟ – ورفعت كفيها للسماء تحمد الله تعالى واغرورقت عيناها بالدموع – وقالت للطبيب: أرجوك يا دكتور لا تخبر زوجي شيئا حتى أخبره أنا فقد يرفض..! سأخبره قبل العملية ولكن دع الأمر لي، فوافق لها على طلبها.. وفي ليلة العملية حضر عمر للمستشفى كالعادة يسأل عن والدته ويجلس مع حياة وقد أخذ منه الهم ما أخذ، جلست أمامه حياة وقالت له: – عمر سأجري غدا عملية التبرع بجزء من الكبد لأمي – نظر إليها بلا مبالاة وغير مصدق إذ اعتقد أنها أماني ليس إلا.. اقتربت منه أكثر وركزت عينيها في عينيه وقالت: – نعم ياعمر أجريت كل الفحوصات المطلوبة وكانت مطابقة جدا وتحدث إليّ الطبيب وسيجري العملية غدا صباحا و… – فنهض عمر وقد اعتراه الغضب – أجننتِ؟ لن أسمح لكِ – عمر اهدأ أمي تعاني والمتبرع قد لا يأتي وأنا فوضت أمري لله الذي هو أرحم مني ومنك بي وبها – ولكن يا حياة أنت وطفلك و.. – لن يحدث شيء إلا وقد كتبه الله علينا و … غرقا في صمت رهيب لم يقطعه إلا خطوات الممرضه وهي تقبل على حياة وتبلغها أن موعد العملية الساعة الثامنة صباحا ويجب عليك الصيام.. بكى عمر وبكت حياة في صمت، حتى موعد مغادرته المستشفى أمسكت بيده وقالت: – عمر إن حدث شيء أوصيك بوالدتك وطفلي ونفسك، وتحشرج صوتها ولم تكمل وتقدم نحوها وضمها إلى صدره يقبل رأسها ويمسح شعرها ثم غادر.. – ليلتها لم ينام عمر ولم تنام حياة، وفي مساء اليوم الثاني قدم عمر وقد بدا على وجهه الهم والكدر، صعد للغرفة فلم يجد والدته ولا زوجته وركض في الممر الطويل المؤدي إلى غرفة العمليات فاعترضته إحدى الممرضات – إلى أين؟ – أين أمي؟ أين حياة؟ – آه أنت زوج حياة!! إنها هناك في غرفة العناية الفائقة فقد … ولم ينتظر لتكمل حديثها انطلق يسبقه قلبه.. – ولكن لم يسمح له بالدخول إذ استوقفته ممرضة أخرى قائلة: هما بخير ولكن ممنوع الدخول لك أن تراهما من خلف النافذة الزحاجية، واستدارت وتركته. – وقف عمر أمام النافذة ينقل بصره بين سريرين متجاورين وبينما هو كذلك أقبل الطبيب – هاه كيف حالك يا عمر؟ – دكتور كيف أمي وزوجتي؟ – إنهما بخير لننتظر مرور مالا يقل عن أسبوع لنتحقق من نجاح العملية.. وهكذا تمضي الأيام بعمر مابين طفله في البيت وبين المستشفى، حتى حضر ذات صباح فوجد والدته وزوجته قد نقلتا إلى غرفة خاصة وكانت حياة أحسن حالا من الأم، استطاعت أن تتحدث مع عمر وتطمئنه على صحتها وتسأله عن الأم التي وبعد مضي أسبوعين استطاعت أن تسترد جزءا كبيرا من عافيتها وتعود للمنزل برفقة ابنها وزوجته الكريمة، عادت فاطمة وقلبها ينبض حبّا، ولسانها يلهج امتنانا لله أن رزقها ابنة مع ابنها، عادت لتعود الحياة من جديد إلى قلبها قبل بيتها.