معروف ان ظروف العمل المهني العسكري يختلف عن أي مجال وظيفي آخر. والمجتمع العسكري بطبعه ينصهر في بعضه طيلة الخدمة التي قد تمتد لأربعة عقود متواصلة. وبشكل عام لن تجد تكاتفاً وتعاوناً وتكاملاً نتيجته العمل بروح الفريق الواحد كما في العسكرية!، ويستطيع غير العسكري ان يلحظ ذلك، أما احترام التسلسل القيادي الوظيفي وتنفيذ الأوامر والتوجيهات بلا تردد فهذا أساس متين بالجندية، اضافة الى عنصر مهم وهو الإهتمام بالوقت وإدراك خطورته، ويأتي الإنضباط الشخصي في العمل وخارجه عنواناً بارزاً في حياة الضابط. ولدى العسكريين علاقة مقدسة فيما بينهم تسمى “الزمالة” ومجرد خدشها او تجاهلها يعتبر منقصة ومثلبة يتحملها من يتجاهلها، ولذلك قد يُقَدِم احدهم نفسه للموت فداءً لزميله أو فليذهبا معاً وقد حدث.
لكن القوات الجوية بشكل عام لها خصوصية إضافية، ومع مرونتها اللامتناهية إلاّ أن هناك البعض خارجها يصفها بالتعقيد والمبالغة في الدقة والحذر تجاه مستوى الكفاءة، ومعايير السلامة والجودة. وإذا ما تأكد هذا التصنيف فإن له مايبرره عطفاً على حساسية مهام هذه القوات وصعوبة ظروفها، وفداحة أي خطأ قد يقع بأحد جزئيات عملها على الأرض او في السماء حتى وإن كانت الأسباب خارج ارادة الإنسان.
هذه القوات بتخصصاتها المختلفة يغادرها سنوياً كغيرها اجيال من الرجال العاملين ضباطاً وافراداً لإنتهاء خدماتهم وخاصة تشكيل الضباط، وأغلبهم في اليوم التالي للتقاعد يتنفس الصعداء قليلاً ثم ينظر حوله ليجد أن حياته قد تغيرت وأن بيئة عمله السابق لن تتكرر في أي مكان آخر، وأن ماتدرب عليه وطبقه جُل حياته قد لا يسمح له بمسايرة واقعاً مختلفاً في مواصفاته وأدبياته العامة، وهذا ينطبق على الأطقم الجوية بالقوات المسلحة الأخرى كالبرية والبحريه وغيرها.
بعد الترجل من الخدمة العسكرية يجد هذا الإنسان أن أقرب الناس الى نفسه وإلى فهمه وفكره وطبيعته كمهني محترف وكإنسان، هم رفاق دربه ومن سبقوه من خدمة السلاح زملاء المهنة، وهذه حقيقة، فلن يفهم لغته وسالف حياته وما مر به من مواقف وقصص النجاح او التعثر وما رافقها من مواقف أخرى بين الجد والهزل إلا زملاءه فقط لاغيرهم الذين عاش معهم ولازمهم اكثر مما مكث مع عائلته ووالديه، في ظروف قاسية مختلفة لكنها ممتعة… وتلك ايام خلت…
ثم جاءت وسائل التواصل الحديث فقربت الزملاء لبعضهم وربطت عُرى التواصل واعطت مجالاً بلا حدود لإعادة انتشارهم ولكن بإسلوب أخوي مختلف عمّا سبق. وهذا التشبيه من باب التسليه.
لقد استغل هذه التقنية العقيد الطيار (م) مهدي عباس الزواوي فقام بإعداد منتدى افتراضي على احد التطبيقات ليجمع خلاله العشرات من الزملاء الجويين المتقاعدين من مختلف الدورات وضمنهم قادة قوات وقواعد وهيئات وأجنحة وادارات وأسراب وغيرهم الكثير من مثقفي ومفكري وموجهي القوات الجوية السابقين. تم التوافق على عقد ملتقى ودي يجمع القادرين منهم للمجيء للسلام وتبادل التحايا والتقدير وتجديد روح الزماله، فكان اللقاء الأول في ١٤ مارس ٢٠١٧م بمحافظة عنيزة لعدة أيام في ضيافة مجموعة من الزملاء المتقاعدين، اللواء طيار عبدالله بن يحي السليم (المحافظ السابق)،العميد طيار نايف السعدون واللواء طيار علي الدغيثر والعميد طيار عبدالله المقبل والعميد طيار يوسف البسام. وكانت زيارة ذات أبعاد مختلفة، رأينا خلالها مشاريع عنيزة وتاريخها وتخطيط انسانها المُبدع نحو تنمية أرضه ومسقط رأسه لتصبح عنيزة من ألمع محافظات المملكة.
وبالأمس القريب الواقع في ١٤أكتوبر ٢٠١٩م استضاف الجميع بمكة المكرمة ومحافظة جده زملاء كُرماء آخرين من هناك، وقد أصر أبو نزار ، السيد/ مهدي عباس الزواوي وهو العقيد الطيار السابق بالقوات الجوية، على حضور اكبر قدر ممكن من الزملاء في منزله بجوار البيت العتيق، وكانت المفاجأة، حيث وفد لمنزله زملاء من مناطق المملكة بعد طول غياب وبعضهم لم يتمكن من رؤية زميله منذ مدة طويلة، اللقاء ذو شجون، وكان مزيجاً من الفرحة والسعادة، والدهشة لتأثير عوامل الزمن وتغير الملامح، لكن الروح الجوية وذكرياتها هي القاسم المشترك الذي لم يتغير وكأنهم لايزالون قبل أيام قليلة يعملون في أسراب القوات الجوية ومرافقها، لقد حضر بعض الزملاء رغم ظروفهم الصحية وارتباطاتهم، احدهم جاء من على السرير الأبيض لسويعات ليرى زملاءه وإخوته، ليعود بعد ذلك الى سريره مرة أخرى، فاللهم شافه وعافه وكل الزملاء وجميع من يعاني.
ضيافة الزملاء بالغربية وتكريمهم لزملاءهم في دار ابو نزار بمكة المكرمة كان لقاء فريداً، لقد اغرورقت العيون لأسباب مختلفه، وارتسمت البسمات على الوجوه، جاء حوالي ٦٠ شخصية قيادية سابقة غصّت بهم الدار وسط ترحيب صاحبها بلباسه المكي الوطني وبإسلوب طياري العاموديات الإنقاذي (helper) مستخدماً كعادته لهجات مناطق المملكة، لكن الحجاز كانت حاضرة امامك حتى في جدران المنزل و”مرحمبك”.
انتقلنا في اليوم التالي الى جده في جو ضيافة خاصة وكرم حاتمي تفضل به نفس المستضيفين الأجلاء، ناهيك عن تنسيقهم الدقيق لهذا اللقاء، ولطالما تعودوا على مثل ذلك في اسراب قواتهم الجوية المنصورة بفضل الله. استضافوا الوفد بشاطئ جدة الجميل للغداء، وليلاً بالقرب من قرية ذهبان كان اللقاء الأجمل في قاعة مخصصة للأكلات البحرية. كم كانوا كرماء ومضيافين وأوفياء ومبتسمين ، صحيح ان ذلك ليس مستغرباً فهم ابناء القوات المسلحة وخريجي صروح القوات الجوية الشامخة، لكن مستوى التنسيق ودقته وتوقيتاته لها دلالات تؤكد عظمة هذه القوات ونُبل إنسانها ووفاءه.
هذا ليس كل شيء ، فخلال سويعات الأصيل وبعد الغداء بساحل جده حضينا بزيارة خاصة لمتحف وطني كبير بمحتوياته، انه متحف “عبدالرؤوف خليل” رحمه الله، ورغم تسميته بإسم آخر لكنني أُفضل هذا الإسم لإرتباطه بمؤسسه الراحل ولما لذلك من مدلولات تاريخية، إجتماعية ووطنية. استقبلنا هناك زميل القوات الجوية وهو ايضاً أحد المستضيفين، العميد الطيار / صبري حسن خليل، وهو شقيق مؤسس المتحف. هذا المتحف أشهر من أن يتم التعريف به، ومن هنا ادعوا منسوبي قواتنا المسلحة لوضع هذا الصرح الوطني ضمن اهتمامهم الشخصية، وعلى مستوى زيارات الوفود الأجنبية للدوله. المتحف مكون من أربعة طوابق واسعة جداً يجد فيها الزائر بلاده السعودية أمامه، بماضيها وحاضرها، بإنسانها وتاريخها، احداثها وظروفها وقصص توحيدها، نساءها ورجالها، مناطقها بتراثها ومواصفاتها وفنونها. متحف “عبدالرؤوف خليل” يدل على عظمة انسان هذه الأرض ومستوى تفكيره واستشرافه للمستقبل ومدى تشبثه بتاريخه وأرضه وحضارته. شكراً لهؤلاء الرواد على ما قدموه لوطنهم ولقواتهم ولزملاءهم، ولهم التحية جميعاً على طروحاتهم ونقاشاتهم خلال هذا الملتقى الودي العادي والتي إنصبت على ذكرياتهم وصمود قواتهم ومراحل تطورها ونجاح عملياتها. وبالمناسبة كل الذين حضروا تخصصوا خلال خدمتهم على كافة المنظومات والطائرات والرادارات والمعدات منذ ماقبل طائرات اللايتننج المقاتلة وحتى آخر سلاح حديث.
فشكراً من الأعماق للزملاء المستضيفين الكُرماء بأم القرى ومدينة جده، ولكل من حضر منهم مُرحباً ومبتسماً ولمن لم يتمكن من الحضور لكنه كان موجوداً بتكريمه وضيافته؛ تحية لهم على كرمهم جميعاً، الألوية والعمداء والعقداء السابقين: مهدي عباس الزواوي ، طلال الزايدي يوسف جان ، صبري حسن خليل ، عبدالغني الزهراني ، عبدالله المورعي ، عبدالقادر اكبر ، امين سقطي ، احمد باسنبل ، صالح شاولي ، عبدالحفيظ كتبي ، طلال زمزمي ، محمد كتوعه ، عبدالهادي نويلاتي ، سعيد الاحمري ، عدنان مدني ، احمد كماس ، احمد العنبري ، سعيد عوضه الشهراني ، عبدالملك طه الشيبي ، خالد رفيع ، حمد التركي، محمد أسعد هاشم. أخيراً وكما تقول العرب، عوداً على بدأ،لعنوان هذا الموضوع، الى رجال الدولة اقول، إن الكثير من هؤلاء المتقاعدين وزملاءهم الآخرين من القوات المسلحة ثروة وطنية، التفريط فيها إهدار للفُرص وتجاهل للكفاءات التي كلفت البلاد الكثير.، وليس الغرض هو التوظيف بالمفهوم السائد، كلاَّ، فهم اغنياء وفي خير بفضل الله ثم بما قدمته لهم قواتهم، وإنما للحاجة لعقولهم وفكرهم وفنون قيادتهم وحكمتهم وثقافتهم الوطنية والدولية، لتولي قيادة وزرات وهيئات وسفارات ومراكز فكر لصنع القرارات.. استغلوهم وستجدونهم ملبين للنداء دون مقابل.. ليست مبالغه، جربوا..