تناقل الناس في الأسابيع الماضية الجريمة المروعة التي ارتكبها أحد طلاب مدرسة عثوان ببني مالك في جيزان، حين أقدم على قتل أحد المعلمين طعناً بالسكين؛ فأودى بحياته. وكذلك ما تعرض له معلمون آخرون من إتلاف سياراتهم من قِبل طلابهم؛ فهُدم بذلك جدار آخر من هيبة المعلم، إلى أن تهاوت أركانها، وتزلزل بنيانها. ثم نطالع في مكان آخر، وبالتحديد في إحدى مدارس وادي الدواسر، كما قيل عن مقطع اليوتيوب، أمراً مختلفاً، حين يظهر أحد المعلمين وهو يحمل (فلكة)، يعلق بها أرجل بعض الطلاب الصغار، ثم يجلدهم داخل أحد الفصول، في منظر استفز عدداً ممن اطلع عليه. إن هذين الحدثين كان أحدهما سبباً للآخر، بمعنى أن الغلظة على الطلاب هي التي تستنفر غضبهم، وتنمي سوء سلوكهم إذا ما كبروا قليلاً، كما أن ما يتعرض له المعلمون من عدم احترام، وما ينالونه من احتقار بعض الطلاب، جعل ذلك المعلم يعود إلى أسلوب العقاب الجسدي القديم الذي لم يسلم منه أحد في الأجيال السابقة. ويبقى الجدال مستمراً بين مؤيد لعودة العصا إلى يد المعلم، استناداً إلى أنه أسلوب جعل المعلم ذا سلطة وهيبة ومكانة؛ فتخرج الأطباء والمهندسون والطيارون والأدباء والعلماء والمبدعون من تحت تلك اليد التي ما برحت ترفع العصا كلما حصل تقصير أو سوء سلوك داخل فناء المدرسة أو خارجها، على اعتبار أن المعلم ذو سلطة ومهابة، ومحل تقدير واحترام.. وفي المقابل هناك من يرفض إطلاقاً استخدام العنف الجسدي على الطلاب؛ لما يؤديه من عزوف عن الدراسة، واستشراء الرهاب من التعليم، وكسر كرامة الطلاب، ونشوء أمراض نفسية لدى بعض الطلاب المعنفين جسدياً. ورغم أنني ممن أدرك زمن العصا، وذقنا مرارتها، و(تثنّنت) أصابعنا الواهية وأقدامنا الحافية تحت آلامها، كلما هوت من يد المعلم كأنها شهاب ثاقب، لكنا مع ذلك ما زلنا نحمل الاحترام والتقدير والدعاء لكل من علمنا، ثم شاهدتُ جيلاً سمع بالعصا دون أن يراها، أو يذوق مرارتها، بل لم يشاهد ذلك المعلم الذي يحاسب طلابه حتى لو كان أحدهم في فناء داره، أو في حجر والده، فعرفت بعض سبب الخلل الذي جعل جرائم الاعتداء على المعلم رائجة، والعنف على الطلاب موجوداً. إنهم أولياء أمور الطلاب؛ (فهم عصا المعلم)، التي يهدد بها المقصر، ويصلح بها المعوجّ، وهم حجر الزاوية في العملية التربوية قبل التعليم.. إن أولياء الأمور هم السبب الرئيس في صلاح التربية والتعليم أو فسادها، مع بعض الأسباب الأخرى، لكننا اليوم نشير إلى دور ولي أمر الطالب قبل دور غيره؛ لأنه لا فائدة ترجى دونه؛ وبمتابعة أولياء الأمور وتواصلهم المستمر مع المدرسة لن نرى مثل تلك الجرائم من الطلاب، أو العنف من المعلمين. وللأسف، فقد انشغل الآباء عن متابعة أولادهم داخل المدرسة، وداخل المنزل، وفي الشارع، حتى أن كثيراً منهم لا يعرف الصف الدراسي الذي بلغه ولده، ومن هُم رفاق فلذة كبده! واقتصر دوره على شراء مستلزمات الدراسة، إن لم يوكل بها سائقه، فإذا ما بلغه فشل ولده، أو استُدعي من إدارة المدرسة، هزّ رأسه يمنة ويسرة، وتأفف من هذا الطلب الذي يشغله عن أمور يراها أجدر، ثم يلعن هذا الجيل الذي ساهم هو في فشله. إن وراء كل طالب مجرم أباً مهملاً، ووراء كل طالب معنَّف ولي أمرٍ فاشلاً، ولن تستقيم العملية التربوية والتعليمية ما لم يوضع نظام يجبر أولياء الأمور على متابعة أبنائهم داخل المدرسة بشكل دوري، ويقيِّم حضورهم ضمن تقييم المدرسة لطلابها، وعدم الاكتفاء بمجلس الآباء الذي يعقد بين فينة وأخرى، ثم لا يحضره إلا البعض، وأن يفهم أولياء أمور الطلاب، سواء في المدارس الحكومية أو الأهلية، أن فشل أبنائهم ونجاحهم هو بأيديهم قبل غيرهم؛ فهم العصا التي نطلب إعادتها إلى يد المعلم. ومما يدعو للأسى والحسرة أننا كنا نقرأ كيف كان الأمين والمأمون ابنا هارون الرشيد يتسابقان على حذاء معلمهما (الأصمعي)، أيهما يحضرها له أولاً ليلبسه إياها، وكيف كنا نردد عبارة "من علمني حرفاً صرت له عبداً"، ثم جاء وقت نشاهد فيه مقطعاً مصوراً عن معلم يطلق ساقيه للريح ووراءه مجموعة من طلابه يجرون خلفه في سباق محموم، أيُهم يلحق به ليمسك بتلابيبه، كأنهم ضباع جائعة، في منظرٍ أبعد ما يكون عن الأخلاق السامية، والتربية الفاضلة. ومثل أولئك الطلاب لن يتورع أحدهم عن عصيان والديه، والإساءة إليهما؛ لأن تصرفات الشخص في الشارع والمدرسة تنبئ عن أخلاقه وتصرفاته في منزله. نسأل الله لأولادنا التوفيق والصلاح، وأن يبعد عنهم شر الشيطان وشر أنفسهم، إنه سميع عليم.