من أسوأ التحولات التي واجهتها الفنون الشعبية ما واجهه فن المحاورة، الذي تحول من فن شعري يعتمد على القدرة الإبداعية للمبارزة البلاغية بين شاعرين إلى ملاسنة سطحية تعتمد على الهمز واللمز متجاوزة فردية الشاعر إلى جماعية القبيلة، لإثارة مشاعر الجماهير. وهذه التحولات لم تحدث لولا أن المحاورة استهلكت وصيرت الشاعر أداة صوتية تحت إغراء المال الذي يضغط عليه نفسيا لإثارة الجماهير بأي طريقة. ولم يجد السطحيون منهم إلا أسهل الطرق، وهي رشق الآخرين لإثارتهم حد الاستفزاز، ولم نعد نستغرب أن تقوم مجموعة في محفل بمحاولة الاعتداء على شاعر تجاوز حدود الأدب. ويكاد يكون هذا الأسلوب الدخيل غالبا على محاورات اليوم التي زاد من سوئها الأضواء التي تسلطها قنوات فضائية شعبية تصب الزيت على النار، وتفتح أشرطة دردشة في أسفل شاشاتها الصفراء للمراهقين حتى يلعبوا بنار العنصرية القبلية، معلقين على أداء الشعراء في محاوراتهم الشعرية، ومنتصرين لشاعر قبيلتهم الذي صرع خصمه بالضربة القاضية، كأن الشعر تحول إلى حلبة ملاكمة! ويتدفق سيل الرسائل محموما ليزيد من حدة التنافس بين الشعراء لإبراز القبيلة على طريقة البيت العربي القديم: «لنا الصدر بين العالمين أو القبر»، ما قد يصيب الروح الوطنية لأولئك المراهقين بمقتل. ورغم فداحة ما يحدث إلا أن تلك القنوات لا يهمها سوى الربح، وهو حال الشعراء أيضا. ويروي أحد عشاق المحاورة بعد أن هجرها كيف استغل شاعران قبيلة كل منهما لضرب خصمه تحت الحزام، ما أثار غضب القبيلتين على بعضهما، واستمرا كذلك ردحا من الليل، وفي نهاية الحفلة البائسة المنقولة على إحدى الفضائيات خرج كل منهما بعد أن قبضا ثمن الإسفاف بالقبيلة والتعريض بها، وكل منهما يصافح الآخر مع حديث باسم غير آبهين بما فعلاه بمشاعر الشباب الذين تلقوا بذور الفتنة والتفرقة. والمفارقة أن كليهما يعتقد أنه قدم مادة دسمة لجمهور الشعر، والحقيقة أنهما يحقنان السم في جسد المجتمع الواحد.