الخيال المستحيل يكاد يكون جينا وراثيا لأهل الشرق، كما يبدو، هذا الخيال الذي يحسدنا عليه بعض أهل الغرب من الواقعيين، ويضحك علينا لأجله بعضهم الآخر؛ ولأن الشرق وأهله حالمون بطبعهم فقد لعب معهم الخيال لعبته المسلّية في بكائياتهم، وكلنا يذكر أن قيسا كان، كما تذكر حكايته، يبكي حتى يسقط مغشيّا عليه ويتكرر هذا المشهد كثيرا حتى تملّ الحكاية وأنت لم تنه فصولها الأولى بعد، ومن خياله البعيد في البكاء قوله: ولمّا تلاقينا على سفح رامةٍ وجدت بنان العامرية أحمرا فقلت: خضبتِ الكف بعد فراقنا؟ فقالت: معاذ الله! ذلك ما جرى ولكنني لما وجدتك راحلا بكيت دما حتى بللت به الثرى فمسحت بأطراف البنانِ أصابعي فصارت خضابا في اليدين كما ترى هذا الخيال “الكاذب” لبعده “المستحيل” عن الواقع لم يظهر بشكل سيئ؛ لأن ابن الملوح ضمَّنه في سردٍ ماتع، وكذلك “نظن” أن ابن الملوح عرف بكثرة بكائه فتقبل الناس ما يقول ولو أجرى الدمع دما، لكن الذي لا يمكن تقبله هو ما يحدث الآن من تصنع الشعراء الرقة في المشاعر حين يكتبون عن عذاباتهم التي لا تنتهي ولوعاتهم وآهاتهم المتواصلة وكأن حياتهم قطعة سوداء من ليل امرئ القيس الذي أبى أن ينجلي!.. وحين يصل الشاعر ببكائيته “المضحكة” إلى مشهد الدموع تتسابق العينان في الرمش المتكرر “على الطريقة الكرتونية”؛ بغية التحقق من صدق المشهد!.. فمن شعراء “قدامى” كانوا يتسابقون في التزايد على عدد “الونّات” وصلت في آخر إحصائية إلى “عشرات الآلاف من الونّات” إلى شعراء “مخضرمين” أعلنوا القدرة على إسالة “وادٍ ما سال سيله” وانتهاء بجيلٍ جفّت مآقيه من كثرة البكاء. الواقع والمتخيّل للجغرافيا العربية أثرها فيما ظهر وما بطن من طباع وسلوكيات الإنسان العربي، فالصحاري المترامية والأجواء الجافة جعلت من الجفاء والتصحّر العاطفي سمةً عربية، وكذلك المرتفعات في جنوب الجزيرة العربية التي، وعلى الرغم من الماء والخضرة، إلا أنها ضيّقت الأنفاس لضيق المدى وقلّة الأوكسجين، كل هذه الظروف الجغرافية أنتجت رجلا، إن رقّت مشاعره باح باليسير منها وأخفى ما تيسّر! وهذا ما دعا الشعراء الذين “يقولون ما لا يفعلون” للذهاب بخيالهم بعيدا جدا في وصف البكاء، ولذلك كان الشعر بمكانته العالية في نفوس العرب “المصرف” الوحيد لممارسة ما لا يمكن ممارسته أو قبوله على أرض الواقع، فالحب من أشد “الممنوعات” في العرف العربي لكنه في الشعر من أولى “المفضّلات” لديهم.