تشكل الموسيقى جانبا أساسيا في ثقافة المجتمعات البشرية، ويعيد الباحثون نشأة الموسيقى إلى عصور ما قبل التاريخ، وهي تسبق جميع التطورات الثقافية الإنسانية. ويُعتقد أن أصوات الطبيعة (الطيور والمياه والهواء) كانت أول من قاد الإنسان لإصدار موسيقاه الذاتية، فكان الصوت الموسيقي الأول الذي استخدمه الإنسان هو صوت حنجرته. ثم تلا ذلك ظهور الإيقاع، بالضرب على الطبول والجلود المشدودة، وهي المرحلة الموسيقية التي لا تزال تعيشها بعض الشعوب. وبعد ذلك، توصل الإنسان إلى صناعة الآلات النفخية، وعلى رأسها الناي والمزمار، ثم انتهى الحال في العصور الحديثة إلى الآلات الوترية. والعرب، وبينهم سكان الجزيرة العربية خاصة، مروا بهذه المراحل الموسيقية الثلاث. فعرفوا الإيقاعات والنفخيات، ثم تعرفوا على الأوتار فصنعوا آلتهم الخاصة ذات الوتر الواحد (الربابة)، لكنهم أدركوا الحاجة إلى آلة وترية متعددة النغمات، فمالوا إلى استخدام العود منذ وقت مبكر في التاريخ العربي، حتى أصبح العود حاليا رمزا مشرقيا بشكل عام ورمزا عربيا بشكل خاص. هذا التحقيق يروي واقع هذه الآلة، في عصرنا الحالي، ويلقي الضوء على أسواقها ومراحل صنعها، من خلال آراء محبين لاستخدامها، وآراء عدد من باعتها وصانعيها. في سوق الحلة بالرياض حيث يسود توجُّس شبهه أحد المتعاملين مع السوق ب»عالم المخدرات»، بسبب عمل معلمي العود بدون تراخيص. سرّ الحلة تأسس حي الحلة في الرياض كحي سكني متواضع عام 1956، وبعد أن بدأ سكانه يهاجرون منه في السبعينيات، تحول الحي ذو التصميم الشعبي، إلى ملجأ لباعة الآلات الموسيقية ومحبي العزف على الآلات وتعلمها. ويعود سبب ذلك إلى كون الحي منزويا بعض الشيء، وتكثر فيه المنازل الشعبية، التي تصلح تماما لنشاطات غير مرخصة، كنشاط بيع الأدوات الموسيقية الذي تقوم جزئية بسيطة منه على تراخيص، وتعليم العزف، وهو نشاط غير مرخص على الإطلاق. وفي الجولة التي أجرتها “شمس” في ثنايا الحي، حيث تنتشر المحال بكثافة في الممرات والشوارع الفرعية، كان اللقاء مع عدد من الزبائن، من بينهم طلبة، يتعلمون لدى معلمي عزف، وهواة يرغبون الشراء أواستئجار الأدوات. هواية من الطفولة ومن بين هؤلاء محمد عبدالله الشعلي، وهو طالب يتعلم عزف العود لدى معلم من جنسية عربية، ويقول الشعلي إنه مداوم على حصص التدريب منذ أشهر عدة، وسبق له أن درس عند معلمي عزف عدة، لكنه استقر أخيرا لدى معلم قال: “إنه جيد جدا، ويطوّر مهاراته في العزف يوما بعد آخر”. ويضيف الشعلي: “في طفولتي كنت مثل غيري من الأطفال أصنع آلة وترية بدائية باستخدام إناء بلاستيكي وأستخدم المطاط بديلا من الأوتار، وكان من الجميل أن نخرج بنغمة معينة آنذاك، وظلت الهواية تكبر معي، حتى قررت قبل نحو ثلاثة أعوام تعلم العود بالتدريب الذاتي فاشتريت آلة، غير أن مستواي في العزف ظل محدودا حتى بدأت بحضور التدريبات لدى المعلمين، ومن ثم اتفقت مع معلمي الأخير على دروس خاصة، بواقع ساعتين يوميا، وتكلف الساعتان 100 ريال. متعة شخصية وفي لقاء مع شاب آخر، هو ناصر آل سليمان، قال إنه في السوق لحضور دروس تدريبية أيضا، غير أنه أكد أن تعلّمه ينبع من حبه وهوايته للعزف فقط، ولا يرى أن مستقبله سيرتبط بهذه الهواية، ويقول: “لو أجدت العزف تماما وطلبت مني شركة إنتاج فني أن أصدر عملا موسيقيا فسأرفض ذلك تماما؛ لأنني فقط أريد أن أتعلم عزف الآلة لمتعتي الشخصية، وليس لإمتاع الآخرين”. ويرى آل سليمان، أن الغياب التام للمعاهد الموسيقية في البلد، يدفع محبي الموسيقى إلى التسلل بين الأحياء الشعبية لحضور حصة أو درس، وأضاف: “لو افتتحت معاهد موسيقية فسأكون من أوائل المتقدمين، بسبب ضخامة التكلفة المادية لمعلمي العزف غير المرخصين الموجودين حاليا”. السماح للمعلمين.. حل من جانبه، يقول بدر المشاري، وهو أحد من التقيناهم لدى محل للأدوات الموسيقية، إنه يحرص على التواجد في السوق كلما أتيحت له الفرصة، على الرغم من أنه يعزف جيدا. ويشير المشاري إلى أن فوضى السوق تؤدي إلى تعزيز الصورة السلبية للموسيقى لدى الفئات التي تحاربها، فمحاربو الموسيقى بحسب المشاري “يلفتون النظر إلى واقع الوسط الموسيقي، حيث يشبه المتعاملون به تجاريا باعة المخدرات من حيث تخفيهم الدائم وهربهم من الجهات التي تترصد لهم”. ويطرح المشاري حلا من خلال اقتراحه بالسماح لمعلمي العزف بأداء نشاطهم وفق تراخيص يسهل الحصول عليها؛ لتكون أعمالهم قانونية، وتمحى صورة الحي الشعبي المظلم والمخيف الذي تنبعث من أروقته أجمل أصوات الموسيقى؛ ففي ذلك “تناقض كبير”، كما يشير المشاري.