هناك في مكان ما من هذه المدينة المترامية الأطراف عشت حادثا ظل عالقا في الذاكرة زمنا طويلا.. ودائما ما أحاول الإفلات منه دون جدوى، وكأنه قدر لي أن ألازم روعة ما تذكرته فحاولت نسيانه.. كان ذلك منذ وقت قريب.. وكان حادثا مؤلما لشاب يقود سيارته في العقد الثاني من عمره، وكان مسرعا بسرعة البرق، متهورا كالوحش، لا سبيل من إيقاف ثورته، أو كبح جماح رغبته.. تجاوز كل المركبات، وكانت عيون الناس تحدق نحوه برعب، وكان السائقون يفسحون له الطريق خوفا من جنونه والموت القادم نحوهم.. بعدها سمعت من أحد السائقين من مكان قريب يقول: هذا الشاب ميت لا محالة إن استمر مسرعا هكذا، وسمعت آخر قال مثله وآخر وآخر.. والكل كان يجزم على موته إن استمر على تلك السرعة.. ذهبت السيارة واختفت عن عيوننا، ولم نعد نبصرها، تجاوزت كل المركبات، ذهبت بعيدا وما هي إلا دقائق.. حتى توقفت حركة السير في الطريق، ازدحم المكان، وأغلقت المنافذ، وأصبح من الصعب المرور، سألت أحد المارة عن سبب ذلك الزحام.. قال حادث مروع وقع هناك، ترجلت من المركبة، وأثارني الفضول أن أعرف السبب، وعندما وصلت كانت هناك جثة ممددة على الطريق، لم يبق عضو واحد فيها ينبض بالحياة، نظرت إليه، لم أستطع أن أتماسك نفسي من البكاء، حيث كانت سيارته مهشمة ومحطمة نهائيا.. عندها أدركت أن ذلك الجسد الميت الممدد على الطريق ما هو إلا جسد ذلك الشاب الذي مر كالبرق أمامنا قبل بضع دقائق، ليستقر هناك وسط هذا الطريق ميتا، هكذا مات.. ولم يبق منه سوى الفراغ والحزن في بيت أهله الذين اشتروا له لعبة الموت، وتركوه وحيدا يهيم بها في شوارع هذه المدينة، لينتهي هنا ميتا مثله مثل كثيرين من الشباب الذين قضوا بنفس هذه اللعبة التي سرقت منهم حياتهم وهم ما زالوا في ربيع العمر. عندئذ سألت نفسي كم عدد الضحايا الذين ماتوا بنفس الطريقة؟ وكم عدد الأسر التي لم تتعلم من مثل هذه الدروس، ولم يبق منها شيء.. وتستمر تجلب الموت لأبنائها.