يأخذنا فيلم «قيادة» في رحلة صامتة قليلة التعابير، كسمات شخصيته الرئيسية، للبحث في استقراء بصري لأعماق النفس البشرية وحاجاتها المحرومة منها ورغباتها المشتهاة الدفينة، وفيما يمكن أن يدفعه الإنسان ثمنا ليحافظ ويرى تلك الرغبات مجسدة بصورتها الوردية الجميلة، ولو في مواجهة واقع شديد القتامة والفساد. سائق يقود نحو الحياة الوردية في بداية الفيلم وقبل التترات التعريفية، نتعرف على شخصية الفيلم المحورية التي لا اسم لها سوى «السائق» حيث نراه وهو يتحدث بالهاتف مع أحد ما ويقول له: إنه سينتظر لخمس دقائق فقط وبعد ذلك سيمضي، وهذا ما سنراه متجسدا، وقد وضع السائق ساعته على المقود، ومعه جهاز لا سلكي يتيح له التنصت على الشرطة. ثم يخرج اثنان من مكان سرقاه، ليمضي بهما، وتتم مطاردة السيارة، لينجح السائق بمنتهى الهدوء والثقة في تضليل سيارات الشرطة والطائرة، من دون أن يتبادل كلمة واحدة مع من معه. وبعد ذلك نشاهد السائق بزي شرطي، ليتضح أنه سائق سيارات، وزيه هذا ليس إلا لدور يؤديه في فيلم كونه يعمل «دوبلر» قيادة بدلا من أبطال الفيلم في المطاردات الخطيرة. وفي مرة ترافقه في المصعد جارته «أيرين» التي ستسعفه الصدفة بلقائها هي وابنها في متجر وقد تعطلت سيارتها، وبعد المساعدة يعود الثلاثة إلى البيت، لنعرف أن زوج أيرين «ستاندرد» في السجن، وتتعمق العلاقة من دون أن تتحول علاقة السائق بأيرين إلى حب جارف، فهو يبقى مستمتعا بعلاقته مع أيرين وابنها كلاهما من خلال الرحلات والنزهات وذلك الدفء الذي يتيحه وجود جو عائلي، وهو ما يفتقده السائق، حيث سيقول في الجزء الأخير بالفيلم إن ذلك أجمل ما حدث له في حياته. وكل ما سنعرفه عن حياة «السائق» هو أنه يعمل ميكانيكيا لدى «شانون» الذي يسعى لخوض غمار سباقات السيارات من خلال السائق، والحصول على تمويل لذلك من قبل «بريني» وأخيه «نينو». ومن هنا ستطور الأحداث ما إن يخرج «زوج أيرين» من السجن، ويستحضر معه مشكلاته، كونه مدينا لعصابة بمبلغ من المال، وعليه أن يقوم بعملية سطو لمصلحة تلك العصابة لئلا يتعرضوا لزوجته وابنه، ولذلك سيتورط السائق معه، لا لشيء إلا لحماية أيرين وابنها. وهنا سنعود إلى الدقائق الخمس، وخلال العملية التي تتم بمساعدة «بلانش» صديقة «ستاندرد» يقتل الأخير، ويتم مطاردة السائق وبلانش، وبعد التخلص من المطاردين وفي مكان الاختباء بنزل، يهاجم المكان لتموت بلانش، وتبدأ رحلة من المطاردات والقتل والقتل المضاد، ليكتشف السائق أن نينو وشقيقه بريني هما من يقفان وراء ذلك. وفي نهاية مفتوحة بعد المواجهة الأخيرة ومقتل نينو وشانون سيتم لقاء بين بيرني والسائق لتسلم الأموال، حيث سيطعن «بيرني» السائق، وهو ما سيفعله السائق بدوره، ليتركه جثة هامدة قرب حقيبة النقود، وفي نهاية مفتوحة كما الحياة، سنرى أيرين وهي تقف على باب السائق ثم تعود أدراجها، والسائق وهو يقود في عتمة الليل. فيلم أكشن يليق بالمهرجانات الفيلم في الأصل مأخوذ عن رواية «الجريمة ذائعة الصيت» للكاتب الأمريكي «جيمس ساليس» وتحمل نفس الاسم، حيث كيفها كاتب السيناريو الشهير الإيراني «حسين أميني» الذي كتب سيناريو العديد من الأفلام منها «جود، الريشات الأربع، السكين الرقيق» وفيلمه الأشهر «أجنحة الحمامة» المأخوذ عن رواية «هنري جيمس» الشهيرة، والذي حصل بموجبه أميني على ترشيح لجائزة أوسكار أفضل كتابة سيناريو مقتبس. وفي فيلم «قيادة» أعاد أميني رسم ملامح الشخصيات وخصوصا شخصية «السائق» وبتكثيف رائع ولافت لجمل الحوار القليلة لتناسب ملامح الشخصية، ومن أهم ما يلفت هو محور السرد وطريقته، وهي ما عكسته رؤية المخرج الدنمركي «نيكولاس ويندينج ريفن» صاحب الفيلم الشهير «برنسون» 2009، حيث قدم فيلما أكشن بكل ما تعني الكلمة، مصنوع بحنكة بصرية عالية ولافتة، وخصوصا اللقطات الطويلة الصامتة والهادئة وحركة الكاميرا وزوايا التصوير التي تقرب الفيلم من الأجواء الواقعية من دون أن يضيع الفكرة الأساسية في تقدم دراما نفسية تقدم مقولتها. كذلك عبر الاستخدام المدروس للموسيقى التصويرية التي وضعها «جرف مارتينيز» وخصوصا في مقدمة الفيلم وبتغليف المشاهد بحيث لعبت دورها في تغذية الأحداث ورفع سوية مشهدية الصورة، إضافة إلى أداء الممثلين وخصوصا «ريان جوسلينج» في دور السائق. بدايات عرض الفيلم كانت مع مهرجان كان في دورته ال64 حيث لقي نصيبه من الثناء ليتوج بجائزة «السعفة الذهبية» لأفضل إخراج، وبعدها عرض في مهرجان «لوس أنجليس» ومهرجان «ملبورن» السينمائي، وحظي بعرض خاص خلال مهرجان «تورنتو» السينمائي. وقد تلقى إشادات نقدية بالغة الحفاوة، وبلغ تقييمه في استعراض موقع «IMDb» العالمي درجة 8.6/10، وحصد في أسبوع عرضه الثاني في الصالات الأمريكية قرابة 21.5 مليون دولار أمريكي .