ثقافة الأمم والمجتمعات ليست أمرا نخبويا وحالة لا تستبصر إلا بالغوص في بطون الكتب والبحث فيها. إن المعاملة هي أولى بوابات التعرف على أي ثقافة بل هي مفتاح أول لتلك البوابات نحو المعرفة. وربما تنوعت ثقافة قبيلة عن أخرى وعائلة عن أخرى وفرد عن آخر.. وسأحدثكم عن ثلاثة مواقف وهي لا تعبر بالضرورة عن ثقافة مجتمع أو بلد ولكنها تمثل جزءا منه ما دامت تصدر عن أفراد يكونون في النهاية بناء هذا المجتمع. قبل أكثر من أربعة أشهر كلفني قسم في الجامعة بالتقاط صور صباحية لحياة الناس الممارسة على شاطئ البحر، فاتجهت بآلة التصوير مبكرا صباح يوم جمعة لعلمي بقيمة هذا الوقت لسكان جدة وحبهم للتنزه حينه على البحر. توقفت عند رجلين بلغا من العمر عتيا وخطت الحياة على وجهيهما تجاعيدها، قد استرخيا وهما يراقبان السمك الصغير الجميل ذا الألوان البهية يسرق طعوم سنارتيهما وينسل دون أن تجذبه شوكة الصيد بغتة. وبعد حديث قصير. استأذنتهما بمحبة وابتسامة أن ألتقط لهما صورة ترسم هذه اللحظة البديعة فتحفظها في أبدية، مع خيار عدم ظهور وجهيهما وحفظ هذا لهما. فنظر إلي كبيرهما ثم قال بلهجته الحجازية: «روح يا ولدي.. صور الزبالة اللي هناك.. شوف الزبالة اللي مرمية جنب موية البحر.. وينها البلدية؟ صورها أحسن لك منا». أردف الآخر في تثنية على جملة صديقه «صور القمامة.. وخل الناس تشوفها في الجريدة حقتكم.. احنا ما نفيدك يا ولدي». قلت له إنني لست بصحفي ولكني طالب بالجامعة وهذا العمل من أجل الجامعة. ولكنها صقعتني هذه اللغة الرافضة بعد ذلك الحديث القصير الذي فتح لي الأبواب. جفلت للحظة. ثم فهمت رفضهما وتقبلته بصدر رحب. شكرتهما وأعلنت احترامي لرغبتهما، شيعني كبيرهما بهذه العبارة وأنا أعود أدراجي «الله معك يا ولدي». في ذلك الصباح وبالقرب من الرجلين، وجدت رجلا آخر اسمه محيي الدين من بلد عربي يقارب عمره عمر صديقي الأولين حييته بابتسامة وجهي وعدستي، كان على وشك الانتهاء من الصيد حتى تجرأت واقتربت منه، واستأذنته أن ألتقط له صورة أومأ برأسه موافقا ورحت اضبط وأزن أدوات كاميرتي القديمة حتى أحصل على صورة جيدة، وبعد أن أخذت صورتي شكرته وسألته عن بريده الإلكتروني حتى أرسل له الصور ومن المرات القليلة في حياتي التي أحفظ فيها عنوانا دون أن اكتبه. وبعد أسبوع أرسلت له الصورة على بريده مع عبارة محبة وشكر وكلمات مستعجلة، ثم لقيت منه هذا الرد الجميل: «السلام عليكم.. عزيزي الذي لم أتعرف وأتشرف بمعرفة اسمه ولكن ليست دائما الأسماء ما تحفظها ذاكرتنا هناك أمور كثيرة تعلق في أذهاننا وخصوصا منها الأعمال الطيبة والخيرة وكذلك التصرفات النبيلة والجميلة وعمل المعروف، بالطبع إنني أشكرك على هذه الرسالة الصغيرة الطيبة النابعة من إحساسك وقلبك مع أنها كانت لحظات قليلة التقينا بها عند شاطئ البحر إذا أحببت أن تراني مرة أخرى فقط اكتب لي عن أي مكان تحب أن نلتقي وهذا يعود إليك عزيزي». ثم رددت له برسالة كان هذا بعضها: «ويعجبني ذوو الأرواح الجميلة والقلوب الكبيرة وأصحاب البساطة الذين يجلسون أمام البحر يصطادون السمك ولا يهمهم السمك كثيرا بقدر ما تهمهم نزهة الروح ورؤية الناس.. وفي الحقيقة كنت قد وجدت الصد والرفض من آخرين أردت أن ألتقط لهم صورا.. ولكنك أفرحتني وأسعدتني.. أتمنى أن التقيك وأتعرف عليك أكثر إذا سمحت لي ولك الأيام». وفي مساء آخر، كنت جالسا في مقاعد الانتظار حتى يحين موعد إقلاع الطائرة، واخترت مقعدا منزويا بعض الشيء عن ضجيج المطار وغرقت في كتاب بين يدي، وفجأة هجم على تلك المجموعة من المقاعد جموع من الإخوة الإندونيسيين من الرجال والنساء واحتلوها وطار بعض الهدوء الذي لملمته. جلس إلى جواري رجل منهم حاول منذ البدء أن يعوض علي ما ضاع علي من اختلائي بنفسي، فبدا محييا رددت تحيته وعدت لا أكاد أفهم ما أقرأه بل أنا أكرر قراءة سطر واحد ببصري مرات دون أن أفهمه، حتى استسلمت لقربه مني ومحاولته فتح باب للحديث. لكن المشكلة أن هذا الرجل الذي يبلغ ال37 من عمره وقد كانت هذه المرة الأولى التي يزور فيها مكةالمكرمة، لا يتحدث إلا العربية الفصحى، ثم استعضت عن كلماتي العامية التي لم يفهمها أبدا بالفصحى، ورويدا رويدا وجدتني أتحدث الفصحى تماما وأنا في حالة من التعجب أنني لا أسمع ضحكات أو تمتمات من حولي. ما يزيد على نصف ساعة كانت أطول مدة في حياتي أتحدث فيها العربية الفصحى. قال لي إن اسمه «ابن الأمين» وإنه محاضر بإحدى جامعات التربية في سومطرة يعلم مواد التأريخ، وأن لديه زوجتين وأربعة أولاد منهم «عفيفة خير المطيعة» ابنته الكبرى عمرها عشرة أعوام وقد ذكر اسمها وهو في جو من الزهو بها. كان الحديث معه وديا ومنسابا جدا، لأنه كرر على أذني أنه درس اللغة العربية وبحاجة إلى أن يتعلم ممارستها كثيرا. تكلمنا عن اللغة وعن اللهجات عندنا وعندهم. تكلمنا عن الجامعات والمراحل الدراسية. تكلمنا عن مكة وقريش. تكلمنا عن السفر طيرانا ومشكلاته. سألني: أنت تحفظ القرآن؟ أجبته: لا. شككت أنه ينظر إلى هذه البلاد وكأن أهلها كما يقرأ عنهم في كتب التأريخ القديمة حاولت أن أوضح له الصورة وقلت في نفسي «ليتك تعلم»!. وحين نودي على رحلتي تبادلت معه معلومات التواصل الممكنة وذهبت وفكري مشغول به، عند سلم الطائرة تأملت خيرا في ابن بلدي الذي يقف، اقتنصت موقفا حاولت أن أخلق منه حديثا. كان الموقف هو فسح الرجال الطريق للنساء ليتقدمن أمامنا على سلم الطائرة. اقتربت منه وقلت له: الثقافة السعودية لا تزال صامدة بهذا الاحترام. نحن إذن نوافذ وأعين على ثقافاتنا. وبأقل أشكال المعاملة نبدي هذه الثقافة في تصرفات وممارسات مع الآخرين. إن ثقافة منطقة واحدة في السعودية قد تدرك بمعرفة فرد واحد منها، فهو قد عجن بعجينة ثقافة تلك المنطقة في صورتها العامة والتي ستبنى على أساسها ثقافته الشخصية لتظهر هذه الثقافة في أي هيئة ممكنة يقبلها الآخر أو يرفضها. فهذه دعوة للتحلي بأنبل الصفات والمعطيات التي تجعل منا مواد محكمة عند الآخرين وخصوصا في مثل هذه المواقف القصيرة التي تترك أثرا نوعيا عن مجتمع بأسره عبدالله الزهري http: //rosebreeze.blogspot.com