شهرا بعد آخر.. يتساقط المزورون، بأخطاء فردية، وبعضها جماعية، وربما نتاج جهد منظم، وآخر قادته المصادفة، لينتهي بعمل منظم. هم في كل موقع، ربما لا يراهم أحد، وربما يعرفهم كثيرون، وربما يعيشون بين جنباتنا، ويتعمد بعضنا ألا يراهم. ومع توالي الضربات الموجعة لأوكار التزوير، تراجعت الأرقام والإحصاءات، بما لا يدع مجالا للشك، وبقيت الجريمة مستمرة، تقتات من ذوي النفوس الضعيفة، وتعيش على بيع ضمائر ذوي النفوس الضعيفة، وفي النهاية محاولة هدم المجتمع، فترى إلى متى يستمر نخر أركان الضمائر لصالح مصالح شخصية؟ توالت القصص التي برهنت على أن التزوير لا يعرف جنسية بعينها، فبالأمس القريب، أسقطت الجهات الأمنية إفريقيا، اعترف بأنه ورفقاء الشر من بني جلدته، امتهنوا تزوير الأختام وإصدار الإقامات المزورة والتعاريف برواتب وهمية لوافدين بهدف الحصول على بطاقات ائتمانية وشراء سيارات بأوراق مزيفة بعد منح المزور أوراقا رسمية لشعارات مؤسسات وشركات كبرى. ولعل ما تم العثور بحوزته شاهد على العائد المربح الذي يتقاضاه من باعوا ضمائرهم لهذا العمل، إذ عثر معه على 80 ألف ريال، وفرها في فترة قصيرة. ومن سجلات الضبط هناك من امتهن عمليات تزوير متعددة، وقام بأكثر من عملية تزوير سواء في أوراق مؤسسات حكومية أو خاصة أو حتى تزوير عقود أنكحة، بعدما اتخذ من مسكن عشوائي بجدة مقرا لإدارة عملياته، فيما كان أغلبية من يحصلون على الخطابات والأوراق المزورة، جنسيات غير سعودية. واستمرت الوقائع لتصل إلى عصابة آسيوية، مكونة من أربع شخصيات، تخصصت في تزوير الأختام، واتخذوا من حي عنيكش الشعبي في جدة مقرا لهم، ليتضح أن بحوزتهم أختاما رسمية لثلاث دوائر حكومية جوازات منطقة مكةالمكرمة، وجوازات محافظة جدة وإدارة مرور محافظة جدة، ومجموعة من الأختام للعديد من الشركات، وعثر بداخل الوكر على مئات الطوابع الخاصة بتجديد الإقامة وأوراق نماذج إصلاح حوادث السيارات التي تصدر من إدارات المرور. على الجانب الآخر لم تكن بطاقات الإقامة للوافدين الوحيدة التي وقعت في فخ التزوير، إذ اعترف مزور إفريقي بأنه تخصص في الهويات الوطنية، استخدمها ضعاف النفوس للاحتيال على بعض الجهات الحكومية. فمن يغزي هؤلاء؟ بداية النصب الشاب ماجد المطيري يروي تفاصيل النصب والاحتيال الذي تعرض له زميله الذي يعمل في شركة خاصة، من قِبل أحد المزورين: «حيث استغل ختم شركته الخاصة في جني مبالغ من وراء تزوير ختم الشركة، وحينما تم كشفه عن طريق سحب مبالغ من حساباته البنكية تم ضبطه من قِبل الجهات الأمنية، وإحالته إلى القضاء، ليصدر بحقه حكم، وأعتقد أن قضية تزوير الأختام الرسمية جريمة عظمى يترتب عليها الكثير من المشكلات، فهل يعتقد أحد أنه يمكن الصمت إذا ما نصب على شخص ما، وسلبني كل أموالي؟». ويرى الشاب عبدالعزيز الزبيدي أن السبب الرئيسي لانتشار ظاهرة تزوير الأختام الرسمية، والتزوير بشكل عام: «أنه لا توجد عقوبات رادعة تقضي على هذا العمل الإجرامي، فالوافدون من جنسيات آسيوية، وكذلك المخالفون لأنظمة الإقامة كثر وفي تزايد، وما داموا يعرفون مسبقا أن عقوبات التزوير والنصب لا تتجاوز السجن خمسة أعوام، فإن المغامرة ستستمر، والخوف من السجن أمام مغريات المكسب السريع، واحتمال عدم افتضاح الأمر، يصبح بلا أهمية». ويجزم الشاب عائض العتيبي أن: «التساهل مع المزورين، ومن يأكلون أموال الناس بطرق النصب والاحتيال وعمليات التزوير، ويتجرؤون في تزوير أختام رسمية، هو السبب المباشر في هذا الأمر، على الرغم من جهود الجهات الأمنية في الوصول إلى المخابئ، ويفترض أن يتم تغليظ العقوبات عليهم، فكلما كانت مدة الحكم قليلة تجرأ آخرون على أن يمتهنوا التزوير، ولا سيما أنها مهنة باتت أسهل عما كانت في السابق عطفا على ما وفرته التكنولوجيا والأساليب الحديثة في عالم التقنية». انخفاض واضح لكن المتحدث الرسمي لجوازات منطقة مكةالمكرمة الرائد محمد الحسين، يؤكد ل«شمس» أن: «نسبة عمليات التزوير في انخفاض عن الأعوام الماضية، وهذا الأمر ملاحظ في الفترة الأخيرة، بالمقارنة عما كان سابقا، خصوصا بعد صدور دفاتر الإقامة الجديدة، وتغيير بطاقة الإقامة، وهي التي كانت تمثل أبرز صور التزوير، لتأتي الهوية الجديدة مضافا إليها بعض العلامات لمنع التزوير في إصداراتها». ويعترف بأن منع التزوير أمر صعب: «على الرغم من اعترافنا بذلك، إلا أن مديرية الجوازات ومحاولة منها في منع عمليات التزوير، إضافة إلى ذلك قننت كل الإجراءات لإصدار الهوية، باعتماد أغلب عمليات التسديد عن طريق البنوك، ومن خلال العمل الآلي، مما يعيق سهولة التزوير سواء في التواريخ أو الأختام». وأشار إلى توفير أجهزة لكشف الصور المزورة، والمطبوعات التي تخص الجوازات، والتي يشك بأن يكون فيها تزوير. وحول الآلية التي تتبعها الجوازات في الوصول وضبط المزورين، بين الحسين أن الأمر يرتبط بالبلاغات الواردة لعمليات الجوازات 992، أو عن طريق مجريات التحقيق في قضايا سابقة، أو عن طريق التفتيش اليومي للمنازل، حيث إننا نقوم بحملات تفتيش على منازل يوجد عليها بلاغات، ونكتشف في حوزة المضبوطين أختاما لجهات حكومية متعددة من بينها ختم الجوازات». وعما إن كانت هناك أيادٍ لبعض ضعاف النفوس من الموظفين الحكوميين في توفير تلك الأختام لهؤلاء المزورين، أوضح الحسين: «أعتقد أن هذا الأمر صعب جدا، في ظل ما عليهم من رقابة». سبب التزوير إلا أن عضو مجلس الشورى الدكتور الشريف حاتم العوني، يعتقد بأهمية التوعية الدينية لمن يخونون أماناتهم، بتزويد المزورين بنسخ من أختام جهاتهم: «هؤلاء أشد، لأن المطلوب منهم حفظ النظام وحمايته، فإذا بهم يصبحون يعينون على نشر الفساد والجرائم، بخيانة أماناتهم العملية، فبالتأكيد أن إثمهم أشد من المزور نفسه، لأنه لولا وجود هؤلاء، وإعانتهم لما حصل تزوير». وتطرق إلى حرمة الزور بصفة عامة، امتثالا لقوله تعالى: «واجتنبوا قول الزور»، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر «قالها ثلاث»؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وجلس مكانه وكان متكئا، فقال: ألا وقول الزور، قال: فلا يزال يكررها حتى قلنا: ليته سكت». وأوضح أن: «في ذلك دلالة عظيمة على أن الزور بأشكاله وأنواعه سواء كان قولا أو عملا كتزوير أختام أو مستندات أو غير ذلك، ما هي إلا من الكبائر». ويشير إلى أن الوزر الذي يقع على كاهل المزور: «لقيامه بأعمال مخالفة، وبما يؤدي إلى تصرفات مخالفة، كما أن من يتستر على المزورين أو عمليات التزوير شركاء في الإثم من أوله إلى آخره، طالما يرى أنه متستر، أو يعرف بأن شخصا ما يمارس عمليات تزوير أختام أو مستندات أو وثائق ويتستر عليه». وعن الحلول المناسبة للحد من انتشار ظاهرة التزوير ذكر أن ذلك يتأتى من خلال التوعية بخطورة هذه الظاهرة، وما تؤدي إليه من ضياع حقوق على أصحابها، وتثير الفتنة والبغضاء بين الناس، وينتشر الفساد بسبب الجرائم والمخالفات النظامية التي قام بها المزور، وأخلت بالأمن والاستقرار ومصالح المسلمين: «وأفضل الحلول توعية المجتمع بخطورتها، وكذلك التشهير بكل من يسلك ذلك عبر وسائل الإعلام، ليكون في ذلك عبرة لغيره، وإن كنت أرى أن يكون ذلك في حدود ضيقة، لكيلا ينعكس ذلك بالسلبية على جماعته وأسرته، حينما يتم التشهير به، ولا بأس من أن يفصح عن أسماء هؤلاء المزورين، ولا سيما الموظفين الذين خانوا أماناتهم العملية، فمثل هذه العقوبات الرادعة والواضحة والسريعة، تسهم في الحد من انتشار ظاهرة التزوير، ومن يعتقد من هؤلاء المزورين أن جرائمهم لا يترتب عليها أضرار، يكون مخطئا وواهما، لذا لا بد من بيان خطورة التزوير على الأمن والاستقرار من خلال وسائل التوعية والإعلام». وعد العقوبات ضد المزورين من اختصاص القاضي وتقديراته. نظام العقوبات ويشرح المحامي والمستشار القانوني صالح الغامدي، النظام الحالي الصادر بالمرسوم الملكي رقم 114 وتاريخ 26/11/1380، والمعدل بالمرسوم الملكي رقم 53 وتاريخ 5/11/1382، الذي احتوى على 11 مادة: «يتبين لنا أنه قصد به شمول أحكام تزوير الأختام والتواقيع وتقليدها، وتزوير المحررات الرسمية والعرفية، وطرق التزوير المادي والمعنوي، وصفة المرتكب لجريمة التزوير، وكذلك جريمة استعمال المحررات المزورة، إضافة إلى النص على بعض الجرائم ذات العقوبات المخففة، مع ما تناوله النظام من اختلاف العقوبات من حيث التشديد والتخفيف، ولعل من الملامح الرئيسية لهذا النظام الإيجاز الشديد في مواده، وعدم استقلال كل نوع من الجرائم فيه بمادة مستقلة، كما أن النظام لم يذكر تعريفا يبين ماهية التزوير على وجه الدقة، إضافة إلى عدم تضمنه لبعض صور التزوير ما دعا مجلس الوزراء إلى إصدار أكثر من قرار لسد النقص في النظام، وقد كان أول القرارات بتاريخ14/8/1399، والثاني بتاريخ 3/1/1406». وأشار الغامدي إلى أنه برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة تزوير الشهادات الدراسية العليا: «التي بموجبها يتم التعاقد مع أساتذة وأستاذات جامعيين ليتولوا زمام التعليم الجامعي في بلادنا، ويكونوا ثقافة أبنائنا وبناتنا في مراحل التعليم العليا، وبيان طبيعة النظام الجنائي الذي ينتمي إليه نظام مكافحة التزوير، وكذلك الطبيعة الخاصة لجريمة التزوير، ذلك يعطي تصورا مهما، لما يجب أن يكون عليه النظام الذي يجرم التزوير، ويعاقب عليه، إذ إن النظام الجنائي بصفة عامة يفترض فيه التحديد والوضوح والحسم، فلا مجال فيه للعموم أو الإيجاز الذي ينتج منه غموض في تحديد الفعل المجرم وصوره، كما أن النظام الجنائي الخاص يستلزم مواكبة التغيرات في الظروف والزمان والمكان، ولذلك كان من طبيعته التطور الدائم لملاحقة تطور المجتمع والتعقيدات المرتبطة بذلك التطور، بما في ذلك اختلاف طبيعة الجرائم، وهذا ينطبق بطبيعة الحال على جريمة التزوير بشكل أساسي». تطوير النظام وأقر المستشار القانوني أن: «التزوير في وقتنا الحالي لا يمكن قياسه بالتزوير قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن، ولا سيما فيما يخص الناحية التقنية والإلكترونية، والتي لها ارتباط كبير بمفهوم التزوير، ولذا كان من المتعين أن يكون النظام الصادر للحد من التزوير متطورا ليحيط بالوسائل والطرق المتغيرة له، ويحد من آثاره السلبية في المجتمع، ذلك أن انتشار التزوير يؤدي إلى هدر الثقة بوسائل الإثبات والمحررات بوجه عام، ما ينتج منه عدم استقرار التعاملات في المجتمع. فلا يتصور أصلا أن يكون هذا النظام أحاط بمسائل التغيير في الوسائل الإلكترونية بما في ذلك التعاملات التجارية الإلكترونية، والتي بلغ حجمها في المملكة هذا العام أكثر من 55 مليار ريال، إضافة إلى كل ما يتعلق بالحاسب الآلي والتواقيع الإلكترونية والبطاقات الممغنطة وغيرها، والتي أضحى التزوير فيها سمة عالمية، بل إن أعلى نسب التزوير كانت في هذه الوسائل، إذ بلغت الخسائر الناتجة من تزوير بطاقات الائتمان في بريطانيا وحدها أكثر من 900 مليون دولار في عام 2005، لذلك فإن الحاجة في الوقت الحاضر إلى إيجاد نظام لمكافحة التزوير يشمل هذه الوسائل والطرق أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى». تشديد العقوبة ويركز الغامدي على أهمية تشديد العقوبة على من يثبت في حقه إحدى هذه الجرائم، لأنه مطلب شرعي واجتماعي ملح، وقدرة نظام مكافحة التزوير على تحجيم تلك الظاهرة وخصوصا تزوير المؤهلات والشهادات العملية: «فلابد أن نمعن النظر في الغاية التي أدت إلى إيجاد هذا النظام، ومن ثم مطابقة النظام وتحقيقه لهذه الغاية أو عدم تحقيقه لها، ولما كانت الغاية من نظام مكافحة التزوير تحقيق الثقة بالمحررات ووسائل الإثبات، لذلك ينبغي استحضار هذه العلة عند تحديد الوقائع التي يشملها النظام، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العقوبات الواردة فيه، وبالتالي يتعين أن تكون العقوبات متفاوتة تشديدا وتخفيفا على حسب تأثير هذه الواقعة أو تلك في الثقة الواجب توافرها في وسائل الإثبات والأوراق التقليدية أو الإلكترونية، وأعتقد أن النظام الحالي لم يراعِ بعض تلك الأمور، ما ساهم في عدم معالجته لظاهرة التزوير معالجة صحيحة، إضافة إلى أن النظام صدر منذ مدة طويلة في ظل مجتمع متغير ما جعله يثير صعوبات عدة في التطبيق العملي» .