لم يكن الأمر يكلف أكثر من خبر تتناقله الفتيات والنساء ورقم هاتف للاتصال، بعدما رتبت مع إحدى الصديقات التي تتنقل كثيرا بين المنازل، وأخبرتها بأنني أرغب في العمل خطابة، وأحتاج إلى أن تنشر ذلك تحت اسم «أم سعد»، ورغم مجازفتي في عدم الثقة بها لإفشاء السر إلا أن الأمر لم يتجاوز أياما معدودة، وبعدها لا ضرر من معرفة حقيقة أنني خطابة مزيفة. الساعة الأولى غادرتني صديقتي مساء ذلك اليوم للبدء في جولة تعريفية بالخطابة «أم سعد» ومهاراتها الكبيرة في التوفيق بين الرؤوس في الحلال، ولم أتوقع بالطبع أن تبدأ الاتصالات فور خروجها أو مساء ذات اليوم، ولذلك بقيت أفكر في كيفية التواصل مع المتصلين، وطريقة الرد عليهم، وتسجيل طلباتهم وشروطهم. أول أجر في اليوم التالي استيقظت مبكرا وبجواري الهاتف، وبالفعل عند الظهر كان الاتصال الأول، وللحقيقة توقعت اتصالات من فتيات راغبات في الزواج، وأمهات يبحثن عن أزواج لبنات ربما فاتهن قطار الزواج، ولم يدر بخاطري قط هذا الاتصال، فقد كان على الطرف الآخر رجل في العقد السادس من عمره، حسبته في البداية يريد أن أبحث له عن زوج لابنة أو أخت، ولكنه فاجأني بلهجة آمرة بالبحث عن فتاة لا تتجاوز العشرين من عمرها، بيضاء، ومن أسرة محترمة، ولا يريدها أن تدرس، فسألته إن سبق له الزواج من قبل؟ فأجابني بأنه متزوج من ثلاث من قبل انفصل عن الثانية، وباق مع الأولى والثالثة، فسألته: وكم لك من الأبناء؟ وكم عمر أكبرهم؟ أجابني: هذا لا يهمك ولا علاقة له بطلبي. قلت له: بالعكس لا بد أن يكون لي فكرة كاملة عنك حتى أقدمها لمن يمكن أن تكون من نصيبك، فتردد قليلا، وقال: لي سبعة أولاد وبنتان، أكبرهم بنت في السادسة والعشرين من عمرها. قلت له: «ألا توافقني أن طلبك صعب ولديك بنت تكبر من تريدها للزواج»، فلم يكترث لذلك، ورد «أستطيع أن أعيشها بأفضل حال، وأنا ما زلت بصحتي وعافيتي، وسيكون لها منزل منفصل عن بقية أولادي». أبلغته أن: «طلبك صعب ولكنني سأحاول»، فبادرني مستفسرا عن موعد معاودته للاتصال، فأبلغته: «أنا من يتصل بك فور حصولي على فتاة بمواصفاتك، ولكنني لا أعدك بأن يتم ذلك قريبا»، فرد «لك 20 ألفا هدية مني إذا عثرت على فتاة مناسبة غير أجرك»، فحفزتني المفاجأة في العرض، للمبادرة على القول: «خير إن شاء الله، وشكرا على كرمك»، وأغلقت الهاتف. مهمة صعبة بالطبع فكرت في أن 20 ألف ريال ليس مبلغا بسيطا، ولكن يبدو الحصول عليه مستحيلا، لأنه من المستحيل أن أجد عروسا تقبل به وفق هذا الوضع، فضلا عن أن أي فتاة من أسرة محترمة لن تنظر للموضوع بصورة جادة وكأنها في انتظار زوج بعمر والدها. طلب ضرة لم يطل انتظاري للاتصال التالي كثيرا، فما هي إلا دقائق معدودة، حتى اتصلت سيدة في العقد الرابع من عمرها عرفت نفسها على أنها أم سلطان، وذكرت أنها الزوجة الثانية لزوجها، وهنا تتبادر إلى ذهني أنها ترغب في زوج لابنتها، غير أنها ألقت في وجهي بقنبلة من العيار الثقيل حين طلبت زوجة لزوجها، فسألتها: «ألا ترين أن طلبك غريب؟»، فردت: «وش دخلك أنت»، فابتلعت ردها، ورحت أسألها عن التفاصيل: «من المهم أن أعرف تفاصيل الزواج وأطرافه، حتى أقدمهما لبعضهما بصورة واضحة، وتخيلي معي أني وجدت زوجة لزوجك، وعلمت أنك من يريد ذلك، كيف تكون ردة فعلها؟». صمتت الزوجة الباحثة عن ضرة لها، ثم واصلت حديثي: «أنا لا أملك زوجات وأزواجا في خزانة لأقدمهم لمن يطلبهم، ولذلك من الطبيعي أن أعرف ما أسأل عنه، وحينما أعثر على الشخص المناسب أقدم له المعلومات التي أتوقع أن يسألني عنها»، عندها ردت: «هو أصلا يبحث عن زوجة ثالثة ويظن أنني لا أعرف، وزوجته الأولى تسبب له مشاكل كثيرة وتريده أن يطلقني، وأنا لم أضرها بشيء، كما أنه حسن المعاملة معي، ولكن لكي أغيظها أرغب في أن يتزوج ثالثة، حتى أزيد عليها أوجاعها». سألتها: «ولكن ألا ترين أن في ذلك مجازفة، فقد يكون ذلك على حسابك»، فردت: «لا، فعلاقتنا جيدة، ولكن زوجته تحاول أن تعكر علينا، وأنا لا أرى مشكلة في زواجه طالما أنه يعدل ويحسن المعاملة». باغتها: «إذا وجدت واحدة، هل ستقدمينها له بنفسك وتكشفين نفسك أمامه وأمام ضرتك؟». ردت: «في هذه الحالة أطلب منك خدمة أخرى وسأزيد أجرك، وهي أن تفكري معي في وضع البنت التي تجدينها في طريقه». أخبرتها بأن هذا الأمر ليس من مهامي، وعليها أن تفكر في الأمر بنفسها وعلى طريقتها، فاختصرت: «دبريها وخلي الباقي علي»، وانتهت المكالمة، وحينها لم أفكر قط لو أنني خطابة بالفعل في تلبية طلبها لأن الوضع دخل نطاق المشاكل العائلية، وفي هذه الحالة من الأفضل الابتعاد عن الشر. واسطة خير كثير من الاتصالات حملت طابع الأمنيات والأحلام غير الواقعية خاصة بالنسبة للشباب، فالفتيات عندما يلجأن لخاطبة مثلي غالبا يصلن مرحلة العنوسة، ولكن على استعداد للتضحية بكثير من مواصفاتهن. اتصل بي شاب في العقد الثالث ويعمل موظفا بإحدى الشركات يطلب فتاة يعرفها ولكن لا يجد وسيلة مناسبة للوصول إليها، فهو يتيم الأم والأب ويرى لو أن أمه حية لكانت اختصرت عليه المسافة بينه وبينها، وهو يجد حرجا في مفاتحة أقربائه للحديث نيابة عنه. سألته: «لماذا لم تطرق باب بيتهم وتقدم نفسك؟»، فأكد أنه لا يجرؤ على هذه الخطوة ويخشى أن ترفضه، وهو يعلم أنها معلمة وفي العقد الثالث مثله، ملمحا إلى أنها في حكم العانس، وفاجأني بأنه يملك رقم جوالها، ولم أسأله كيف حصل عليه، لأنه من الطبيعي أن يكون مهتما ومراقبا وبأي وسيلة ما وجد فرصة للحصول على رقمها. هذه الواقعة بدت أقرب لتحققها بتوفيق رأسين في الحلال، حيث فكرت أن الاتصال بهذه الفتاة والادعاء بأنها تناسب مواصفات باحث عن الزواج يمكن قبوله، فوعدت الشاب خيرا، والتزمت بيني وبين نفسي أن أعمل على هذا الموضوع. إلى الخارج التجربة كانت تتخللها اتصالات متقطعة من صديقتي تسألني كم اصطدت من الباحثين عن الزواج، وأؤكد عليها أنه يجب ألا تكشف الموضوع حتى أنتهي منه، وفي اعتقادي أنني وصلت إلى الطلب العاشر في الساعة التاسعة من مساء اليوم الثاني للمهمة، وبعض الطلبات روتينية عادية لأمهات يبحثن عن أولاد الحلال لبناتهن، وذلك ما توقعت أن يكون أكثر الطلبات وعوانس يطرقن أكثر من باب بحثا عن أزواج. ومن بين هؤلاء فتاة في أواخر الثلاثينيات من عمرها تعمل بمستوصف خاص طلبت زوجا خليجيا وتحديدا من الكويت أو البحرين، وعللت ذلك بأنها يئست في الزواج من بلدها، فقد تقدم إليها كثيرون، إما عاطلون أو غير جادين، ولذلك تأمل أن يسوقها حظها إلى خارج الحدود، وهي لم تمانع في أن تترك وظيفتها لتغادر مع زوجها المنتظر، وكانت واضحة معي حين أخبرتني بأنني لست أول أو آخر خاطبة يمكن أن تلجأ إليها في هذا الأمر، فهي تضع اسمها في قوائم خاطبات أخريات كثيرات، ولم أتردد في مصارحتها بأنه قد يكون فيها عيب يمنع عنها الأزواج. ردت نافية بأنه ليس فيها شيء، بل هي إنسانة مكافحة وتقدس الحياة الزوجية وعلى خلق ومن بيت محترم ولكن حظها العاثر هو الذي يقف في طريقها. فسألتها إن كانت غيرت قليلا في نفسها أو تصرفاتها، فقالت إنها جربت كل شيء ممكن، وبحثت في نفسها إن كانت غير مؤهلة للزواج ولم تجد شيئا، وهي بسبب ذلك فكرت في أن أحدهم عمل لها عملا يحول بينها وبين الزواج، وللحقيقة كثير من العوانس لديهن هذا القاسم المشترك، فمن خلال الاتصالات التي تلقيتها على مدار ثلاثة أيام وجدت أن ما يجمعهن هو الشعور بأن هناك من يعمل لهن شيئا يجعل الخطاب لا يطرقون أبوابهن أو إن فعلوا رجعوا على أدبارهم. عريس هوليودي آخر الطلبات وكان من آخر الطلبات التي تلقيتها من فتاة في أول العشرينيات من عمرها تبحث عن زوج ليس بحسب ما تتصوره وإنما ما ترسمه من المشاهير، ولا أحسبها جادة أو ربما كانت حالمة وخيالية، فهي على ما يبدو مزجت أكثر من صورة لنجوم هوليوود ووضعتها في قالب واحد لتحصل على زوج المستقبل، وهي طالبة جامعية ولا أدري ما الذي يجعلها تلجأ لخاطبة في هذا الوقت من عمرها، ولكني لما لمسته من عدم جديتها أو أنها ربما خيالية أكثر من اللازم. لم أتوقف كثيرا في ظروف طلبها بقدر ما ركزت على الصورة المهولة للزوج الذي تحلم به، فهي تريده في وسامة جورج كلوني، وقوة جون ترافولتا، ورومانسية جوني ديب، فقاطعتها: «كوني واقعية وابعدي قليلا من الخيال الذي تعيشينه، لأنك بهذه الطريقة لن تتزوجي أبدا، ثم إنك صغيرة لأن تلجئي لخاطبة، أنصحك بالتركيز في دراستك والابتعاد عن هذه الأوهام»، فلم تدعني أكمل وأغلقت الخط منهية المكالمة. في اليوم الأخير قلت الاتصالات، وفضلت ألا أزيد الفترة حتى لا يفتضح أمري، وتنقلب المهمة لعواقب غير محمودة، وينكشف ستر أم سعد الخاطبة المزيفة، فكان أن تلقيت نحو ستة اتصالات حتى الثامنة مساء، وبعدها بدأت في الرد بالتشكيك في صحة الرقم، وكنت في الغالب أميل إلى تغيير نبرة صوتي قليلا عندما كنت أتقمص شخصية الخاطبة أم سعد، حتى أكون أكثر صدقية، عندما أرد بعد انتهاء الدور بخطأ الرقم. من خلال التجربة وجدت أنه لا يمكن لخاطبة أن تمارس دور مصلحة أو اختصاصية اجتماعية فالطالبون يفضلون الاستماع لطلباتهم أيا كانت عدم واقعيتها، والوعد بتنفيذها فيما يعدون من جانبهم بدفع أي مبلغ حين يتحقق المراد، وإذا كانت حصيلة ثلاثة أيام نحو ثلاثين اتصالا وطلبا، فهي قليلة مقارنة بأنني امتهنت المهنة لأيام محدودة، ولم أصل للسمعة المهنية المطلوبة في المجتمع، ولكن من المؤكد أن أم سعد اعتزلت المهنة نهائيا، ولم يعد لها وجود فلا يتصل بها أحد ويتشرط عليها بمواصفات خيالية، ولكن يبقى السؤال كم تستفيد لو أنها استمرت في عملها خاطبة؟! .