أن تكون معلما وأديبا يعني أن ينخفض مستوى ذكائك، ويصبح سقف أفقك محدودا تماما كسقف دجاجة، كما يحدث معي طيلة تسعة عشر عاما، من الانخفاض المستمر!. أن تكون معلما وأديبا يعني أن تستغرب من نفسك وأنت تسأل زملاءك في غرفة المعلمين: ماذا ستفطرون؟ وتمضي كما أفعل أنا في حديث طويل حول أيهما ألذ وأسرع في النضوج: ورق العنب أم محشي الباذنجان؟ أو عن الفرق بين طعم لحم الجمل ولحم الخروف، وفي الليل المتأخر وفيما تجلس مع صديقيك الجديدين «أمبرتو ايكو وألبرتو مانجويل» تشكك فيما قلته في المدرسة وتؤكد لذاتك المشوشة أنك لست أنت!. أن تكون معلما وأديبا يعني أن يهجم عليك صداع غريب سماه أحد أصدقائي «صداع المدارس» الذي لا يتركك إلا عند بوابة المدرسة ظهرا، وأن تعجز عن قراءة الكتب في المدرسة والكتابة في حصص الفراغ، تحاول أن تتذكر «زياد» الليلي فلا تعرفه؛ فينقضي وقتك بين الثرثرة في الممرات، والتدريس، والتساؤل المتواصل الحزين «يا إلهي، ماذا أفعل هنا؟! وكيف جئت إلى هنا؟!» أن تكون معلما وأديبا يعني ذلك ببساطة مميتة أن تقف بلا أدنى انفعال أو معارضة أمام بعض زملائك وهم يجرون طالبا من ذوي الاحتياجات الخاصة ويوسعونه ضربا وشتما، بينما الطالب المسكين عاجز عن إقناعهم أنه هو نفسه لا يعرف لماذا يرتكب حماقاته. يعني أن تتعرض لسخرية الزملاء المستنسخين وأنت تحاول أن تفعل شيئا مختلفا عما يفعلونه، مثل أن تحضر صخرة كبيرة متربة بمساعدة الطلاب وتضعها على طاولة الصف، أو أن تقنع الطلاب أن الموسيقى هي روح الإنسان وأنها أساس كل العلوم والمعارف، أو أن تشعل شموعا في صف مظلم؛ لتحاول مع طلابك أن تجبروا الجبل على النزول عن نفسه ومصافحة الوادي المستضعف وصنع مصالحة تاريخية بينهما. أن تكون أديبا ومعلما يعني أن تكون على خصام مع كل شيء في المدرسة: لون حذائك، أصابع يديك، ملامح الزملاء المتشابهة إلى حد مرعب، أقسم أنهم يمتلكون شكل الأنف نفسه وطريقة المشي نفسها ويحلمون الأحلام نفسها، هل هم شخص واحد؟! خصام مع سور المدرسة الطويل العالي، مع طعم القهوة حتى لو كان لذيذا، والهواء حتى لو كان منعشا، وصوت الجرس، وخوف المدير من الزائرين، ونظرة المفتش المزهوة حين يعبر ساحة المدرسة متناسيا ارتعاداته السابقة حين كان مدرسا في قرية بعيدة، وصراخ المعلمين على الطلاب، موقع المدرسة، طريقة بنائها، نوع الطباشير، دفتر تحضير الدروس، دفتر توقيع الحضور. كل شيء مطيع ومخلص في المدرسة، كل شيء خانع وسطحي وغير إنساني ومتواطئ وغير حقيقي وأخرس ومستقر ونهائي، هذا مكان غير مفهوم، لا مغامرات ولا إبداع ولا عذرية ولا طزاجة ولا فرح ولا مجهول فيه ولا حلم، مكان يتخذ من الندى عدوا ويعتبر الاختلاف والتنوع جريمة. لا مجال للعقل والفعل والإرادة والقيم التي احترمها ديننا الجميل وأعلى من شأنها! ما الذي أفعله هنا؟ أنا الذي لا أطيق الإقامة في مكان واحد مدة نصف ساعة! أنا الذي أتجدد بالتجارب والحب والحركة وتنوع الأصدقاء والأمكنة! كيف سيلتقي داخلي خصوبة المجهول ببرودة واستقرار المعروف؟ أي حظ هذا الذي رماني إلى هذا العالم المعدني؟ وما الذي سأفعله؟ هل أستمر في الطاعة والإقامة في الثبات؟ وبالتالي يستمر عقلي وذهني في التلاشي والخراب؟ هل سأتحول إلى دجاجة ذات يوم؟!. كيف أتصرف أمام 50 جثة في الصف تحتاج إلى إنعاش مستمر؛ لأنها تقتل في البيوت كل يوم ذهنيا وحسيا وروحيا وإنسانيا وحضاريا؟. هل سأغادر المدرسة ذات منتصف حصة ثانية، كما فعل الروائي والكاتب معتز أبو صالح، صديقي السوري الجولاني، الذي عمل في مدارس حيفا عشرة أعوام متواصلة ثم قرر في لحظة اختراق كبيرة لنسيج المكان والزمان الخروج لملاقاة ذاته والاعتذار لها وإنقاذ عقله من الاضمحلال؟. خرج فجأة وسط ذهول الطلاب والمعلمين والمدير تاركا نظارته ومظلته ومعطفه ولم يعد أبدا. من سأحمل مسؤولية إصابتي بلوثة ذهنية بسبب بقائي في هذا المكان كل هذه السنين، الوزارة أم الذهن العربي، أم الأممالمتحدة، أم أبي، أم أنا؟ كم من العمر بقي لي لأستمتع بحرية الكتابة والقراءة وحرية عدم فعل شيء صباحا؟ دون أن تمد لي شمس السابعة ألسنتها الأفعوانية وتدفع بي نحو قلاع الجمود. زياد خداش