مضى عام على كارثة جدة، المتمثلة في السيول التي اجتاحت اليابسة في الثامن من ذي الحجة 1430ه، فغاصت المنازل المثبتة بأوراق ومستمسكات نظامية في وحلها، قبل أن تغوص المنازل المثبتة على أرض مجاري السيول، وغير المثبتة في الأوراق الرسمية. لكن الكارثة التي جعلت الكثير من المسؤولين يتحدثون عن الخروقات في حيازة الأراضي، والتعديات التي يمارسها البعض على الأراضي البيضاء، دفعت العاقلين للتأكيد على أن الأعين فتحت على الجشع الأكبر لبعض الأشخاص، أو التساهل الأكبر من بعض الجهات، فبنى البعض ما بنى واستولى البعض الآخر على ما استولى، والنتيجة تغير اتجاه السيل، وبدلا من أن يلتهم الأراضي غير الموثقة في السجلات الرسمية، انحرف مساره ليلتهم المنازل الموثقة في المخططات الرسمية. وفي حين اعتقد الكثيرون أنه «رب ضارة نافعة»، مضى العام ليظهر العكس «الضارة ضارة»، حيث إن التعديات على الأراضي الحكومية بعد الكارثة بلغ 50 مليون متر مربع، فما الذي حدث؟ ولماذا زادت أو تواصلت التعديات؟ ولماذا لم تتوقف؟ ومن يغذي تلك التعديات؟ ومن يسمح لنفسه بالسكوت على تلك التعديات؟ وإذا كان الخوف من تكرار كارثة السيول كان حاضرا حتى الأيام الأخيرة، ومع ذلك زادت نسبة التعديات، فما مصير الأراضي البيضاء الأخرى، بعد عام من زوال الكارثة، والتأكد من عدم عودتها، أو كما يقولون: «ذهبت إلى غير رجعة»؟ الحق الوهمي البعض في مناطق التعديات يتمسك بالحق «الوهمي»، بغية تمرير الحيل، يتذرعون بدوافع واهية للدفاع عن أمر لا يملكون منه سوى وضع اليد بطرق ملتوية. لديهم قواعد مؤقتة للاستغلال لا يظهرون إلا أمام عشيرتهم الأقربين. ما إن يشاهدوا سيارة غريبة حتى يطلقوا سيقانهم للريح بلا مقدمات. ما سبق جزء من منظومة عمل المتعدين على الأراضي، الذين يستخدمون النساء دروعا بشرية ويحرضون الأطفال على الوقوف في وجه معدات الإزالة. ورغم سيل التحذيرات المتكررة من الجهات الرسمية، إلا أن التعديات في ازدياد وطرق الاستيلاء على الأراضي الحكومية ترتفع وتيرتها خصوصا في المواقع الواقعة خارجة النطاق العمراني. بعد سيول جدة، استغل العديد من ضعاف النفوس الكارثة بشكل سريع، وعمدوا هذه المرة إلى حيل احترافية عن طريق تعدٍّ بالحرث، حيث تم مراقبة العديد من المواقع التي اكتشف أنه تم التعدي عليها بالاستعانة بمعدات زراعية وحرثها تمهيدا للاستيلاء عليها بغير وجه حق، وبما يسمى في قاموس المعتدين والشارع «وضع اليد». نصب واستغلال على مستوى الشارع وحديثه، هناك مفاهيم تتوارد إلى أذهان المواطنين وسكان الأحياء بعلمهم بتعديات تطول بعض الأراضي الحكومية في عدة مدن. فيصل الثقفي من سكان حي قويزة، يؤكد أن الكل يعلم بالتعديات إلى درجة أن العديد ممن يمرون على طريق خارجية أو سريعة خارج المدن يلمسون أن هناك تعديات واضحة من خلال حجم الأراضي وإقامة الأحواش العشوائية «شاهدت كثيرا من عمليات الإزالة، والدليل أن معظم الاستراحات الموجودة على طريق مكةالطائف، أزيلت الأحواش، وحتى بعض الاستراحات، نتيجة الكشف عن تعديات، والمسألة ترجع إلى فكر الناس وتوهمهم أنهم لن يحاسبوا ولكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح». ويرى مطير العتيبي أن المشكلة تكمن في عدم علم بعض الأشخاص بآلية بيع الأراضي «أعرف أشخاصا اشتروا أراضي عن طريق أوراق موقعة من جيران الموقع، وفوجئوا في النهاية أن الأرض لم تكن سوى إحداث عليها، وتم الاحتيال عليهم، وهناك الكثير من القصص، لكن المسألة تظل متعلقة، بمبدأ عدم شراء سوى الأرض المملوكة بمستند شرعي، وعدم التجرؤ بوضع اليد على موقع لا يتملكه الشخص، لأنه سيقع تحت قبضة القانون». ويكشف مواطن في حي قويزة «فضل حجب اسمه»، أن هناك من يضع لوحات كبيرة بأسماء تجار، ويستغل أسماءهم في بعض المواقع سواء باللوحات أو بإيهام المشترين بأنهم وراء صفقات البيع. ورم التعديات باتت التعديات بين عشية وضحاها هاجسا يؤرق الجهات المسؤولة، فمن هم ملاحقة الأحواش والعقوم العشوائية، مرورا بتحول ساحات التعديات إلى ساحات تراشق بالألفاظ، أو تشابك بالأيدي وانتهاء بملاحقة ما يشبه الورم الذي يستشري في جسد الأراضي الحكومية. في جدة يتفنن المتعدين في توفير مساحات كبيرة لا تخطر على بال حتى إن احتاج الأمر إلى ارتفاعات كبرى للأسوار أو جلب مجموعة من النخيل، أو الأشجار الوارفة ليواري بها المتعدي سوءاتهم في مواجهة رقابة حكومية لا تؤول جهدا في تطبيق العدالة وتنفيذ الإزالة. الجولة الميدانية تكفي لرصد العديد من الآليات التي يستأجرها المتعدون للقيام بأعمالهم، حتى إنهم ليستعينون بشيولات وبسيارات نقل حتى ينفذوا مآربهم وخططهم، ورصدت العديد من الجولات المفاجئة خارج نطاق العمران وجود العديد من الآليات في مواقع وهي تمارس عملها في وضح النهار معتمدة على بعد الموقع عن العمران وعن الرقابة. وتم رصد العديد من تلك المخالفات عن طريق التصوير للآليات وهي تعمل، حيث عثر على العديد من اللوحات الإعلانية الكبرى التي وضعت على موقع مشاهد من أرض متعدى عليها، وهي تسوق لبيع الأراضي بالجملة والقطاعي، على أن يأتي غافل ويشتريها، خصوصا أنها أراض كبيرة في مساحاتها وتعرض بأسعار رخيصة تسيل لعاب المستثمرين المحترفين من جهة، وتغري الساذجين بالعقار في شرائها. والغريب أنه تورط فيها العديد من المشترين، وانكشفت لهم لاحقا الحقيقة بأنها لا تعد كونها أراضي تعديات، وبالتالي يقع الشخص في معاملات طويلة، وفي الأخير يكتشف أنه وقع ضحية وبعدها يتم فتح تحقيقات تتولاها الجهات المعنية حول مبلور هذه الصفقات المشبوهة. المعتدون جبناء رئيس لجنة التعديات ومراقبة الأراضي في جدة المهندس سمير باصبرين، يؤكد داخل مكتبه ببلدية خزام، أنهم يواجهون الأمرين مع المتعدين، الذين وصفهم على حد تعبيره بال«جبناء» «فهم لا يقوون على مواجهة التعديات إلا بسبل ملتوية، وهي حيلة قصور ونقطة ضعف، بعضهم يرمي الأطفال أمام المعدات عند الإزالة، ومثل هؤلاء لا يهمهم سوى التشبث بأي شيء من أجل أن يصرف النظر عن موضوع إزالة تعدياته، ومن المستحيل أن يتم التغاضي عن حالات التعدي التي للأسف في ازدياد». ويشير باصبرين إلى أن الاعتراض سمة واردة لدى من يحضر في يوم الإزالة، كي يوهم اللجان بأي شيء من أجل تحقيق مآربه «لدى اللجنة أوامر سامية تنفذها، ويتم وبشكل يومي التنسيق مع الجهات ذات العلاقة مثل أمانة جدة والجهات الأمنية لوضع خطة لآلية الإزالة». الاستعانة بسجانات وأوضح باصبرين أن لجنته استعانت بسبع سجانات سعوديات يداومن يوميا بجوار اللجنة من أجل الاستعانة بهم في أي وقت «لوقف النساء اللاتي تأخذهن العزة بالإثم، فيساعدن أولياء أمورهن في تشكيل دروع واقية ضد آليات الجهات الرسمية، وعقولهن الباطنة ترى أن وقوفهن في وجه أعضاء اللجنة والجهات الأمنية سيكون المخرج الوحيد من أزمة المواجهة المؤكدة، لكن المؤكد أيضا أن اللجنة ستزيل أي موقع أيا كان في ظل وجود أوامر سامية وتوجيهات صريحة بهذا الشأن، وهو ما يختص بعمق عملهم الميداني وأنشطتهم التي لا تقتصر على مدينة جدة، ولكن حتى إلى حدودها الخارجية التي تشكل البيئة الأكثر خصوبة للتعدي». تعديات شاملة وفيما ترفع تقارير متوالية إلى محافظة جدة عن عمل اللجنة المختصة بإزالة التعديات، الذي لا يتقيد بمكان أو زمان، يرى باصبرين أن المراقبة تشمل جدة كاملة عبر مساحات كبيرة «وقامت اللجنة بأعمال إزالة كثيرة وفي مساحات كبرى، إضافة إلى أن العمل يتم على مدار الساعة، ففي مقابل أن هناك متعدين يستغلون الزمان للإحداثيات والتعديات، فنحن نواكب هذا النشاط مثلهم، فنرسل مندوبينا في الميدان ونزيل عدة مواقع حتى في الظلام، بعد أن يتم استكمال كل الإجراءات من إشعارات بالإزالة وخلافها، وللأسف التعديات أتت على كل الأراضي والمزارع، وحتى الجبال لم تسلم من أيدي المتعدين، في ظل وجود من يستغل حتى الأودية لإقامة بعض العقوم ليتسنى له أن يحصل على أي شبر من الأرض، كيفما اتفق وبأي طريقة بعيدا عن أعين الرقابة الذاتية». أزمة ضمير ويعترف باصبرين أن «التعديات مشكلة مستمرة ارتقت خلال أعوام لتكون هاجسا ليس في جدة فحسب ولكن على امتداد كبير من مساحات الوطن، وهنالك ثقافة رجعية للمتعدين، يحاولون من خلالها تمرير حيل دفاعية، والتواري خلف الحجج، فهم يعانون من أزمة ضمير، لأنهم يسيرون في اتجاه خاطئ، ومن المهم ارتفاع الوعي لدى عموم المواطنين بخطورة أمر التعدي على أملاك الغير، فهي أملاك ليست لهم بل يحاول العديد منهم الحصول على متمسكات شرعية بطرق ملتوية، إضافة إلى أن العديد من المتعدين يقيمون أحواشا في جنح الظلام، ويحاولون مرارا وتكرار أن يهدا الأمور بحسب تفكيرهم، ليتمكنوا شيئا فشيئا من استغلال هذه المساحات الواسعة من الأراضي في إقامة مشاريع مؤقتة، أو استراحات أو تربية للمواشي أو حتى السكن، فيما إذا استقرت عقولهم على مبدأ التملك وعدم المحاسبة وتثبيت أفكارهم الخاطئة». شكاوى كيدية بعض المتعدين تأخذه العزة بالإثم فيحاول أن يجد له مخرجا بأن يرفع شكاوى وتظلمات إلى ديوان المظالم وأضاف باصبرين أن هنالك العديد من الشكاوى والتظلمات التي وصفها بالكيدية قد طالت لجنة التعديات ولكنهم تبرؤوا منها بعد أن تم الرجوع إلى اللجنة وتسلمت الجهات المعنية تقريرا مفصلا بالوثائق يدحض مزاعم هؤلاء المتعدين مضيفا أنهم تعرضوا لشكاوى عديدة اثنتان منها كانتا مشهورتين وأخذتا وقتا من المعاملات حتى تبين في الأخير أنهما غير صحيحتين وأنهما محض افتراء. تغريم ومصادرة وحول الآلية المتبعة في محاسبة المتورطين في التعديات التغريم والسجن أكد أن هنالك أوامر تنص على الغرامة والسجن وفقا لبنود تتعلق بتكرار التعدي وآليته، مضيفا أن هنالك إجراءات أخرى تتعلق بتغريم أصحاب المعدات التي تشكل دعما أساسيا في عملية التعديات ويتعلق الأمر بالتغريم والمصادرة على حساب حجم عمل التعدي وتكراره، مضيفا أن اللجنة قد حجزت قبل فترة عدة آليات وتم تغريم أصحابها بمبالغ مقررة في توجيهات عليا بهذا الشأن. إجراءات رسمية وفيما تتم عمليات إزالة التعديات وفق قنوات رسمية، يشير باصبرين إلى أن العديد من المتعدين يواجهون اللجان «هناك تنسيق دائم مع الأمانة حيال التعديات، وحصر تلك المواقع الحكومية موجود لدى الأمانة، حيث بلغ حجم التعديات في أربعة أعوام مضت في جدة 230 مليون متر مربع، وهذه مساحة كبيرة، وتم إبلاغ الأمانة باتباع العديد من الإجراءات الرسمية تجاهها، والمتمثلة في متابعة فصل التيار الكهربائي في المواقع التي امتدت إليها الكهرباء، إضافة إلى ضرورة توجيه إشعارات نظامية ووضعها في مواقع التعديات، وإبلاغ اللجنة قبل قرار الإزالة بوقت كاف، واستخراج صحائف نزع للمواقع التي عليها مستمسكات شرعية وتدخل في إطار التعديات .