لم يكن يشغل وزارة الشؤون الاجتماعية، أمر توفير القوت للفقراء والمحتاجين والمعوزين، بقدر انشغالها بكيفية ضمان الوصول الحقيقي لتلك المعونات إلى مستحقيها. وهكذا الزكاة، التي يطفح السؤال عنها مع بداية شهر رمضان، ولا ينتهي إلا بنهاية الفراغ من التوزيع، ومع ذلك يظل السؤال الحائر في نفوس الكثيرين من المزكين والمتبرعين، هل وصلت المعونة أو الصدقة أو الزكاة لمن يستحق؟ لكن في المقابل فتحت بعض الجهات الباب على مصراعيه أمام تهريب بعض الصدقات، التي يتلقاها غير المستحقين، خاصة في كل رمضان، حيث ينتشرون في الشوارع، لسرقة قوت المحتاجين، إلا أن الذي يغيب عن الكثير من المحسنين أن ثمة خطوات جديدة بدأت تتمدد وصولا للظاهرة، تتمثل في شباب يسلبون الفقراء والمحتاجين قوت يومهم، ومعونتهم، وحاجاتهم التي توفرها لهم الجمعيات الخيرية أو المحسنون، في ظل افتقاد الأسرة المحتاجة لمن يأخذ بيديها نحو بر الأمان، ليس المادي بل التوعوي، لتصبح التوعية الغائبة الهوة التي يقفز منها اللصوص لسرقة قوت الأسر المحتاجة. لصوص الفقراء في الشرقية تكثر الأسر التي تعيش حد الكفاف في العديد من الأحياء الشعبية، تعرف أنها تعاني من الفقر والحاجة، لكنها تعترف بأنها تجد قوت يومها، بوقفة جادة من أهل الخير والإحسان، الذين يجتهد الكثير منهم في البحث عمن يهديهم الصدقات، لكنه لا يعرف أنه كلما وضع الصدقات في ركن من البيت، أتتها أياد من داخل البيت لتقتات على الغذاء، فتأكل نصفه، وتستبيح النصف الآخر لتبيعه بنصف الثمن، مقابل إرضاء نزواتها، وإرضاء لهفواتها ولذاتها. اعتراف الأهل بعض الأسر الفقيرة التي أعلنت تضجرها من وضع أبنائها التي ربتها في بيوتها، والذين ليسوا سوى أبنائهم، ممن فقدوا العائل المعنوي، قبل العائل المادي، أرسلت ل«شمس» تصرخ من الحالة التي ربما يعاني منها غيرها، تأمل في الحل العاجل «لأن وضع الحاجة والعوز سيستمر ما دام العمل ماديا والعون مجرد قوت، فيما لا أحد يتبنى التوجيه المعنوي لأبناء المحتاجين، ولا أحد يحاول رصد الحالات التي جنحت في السابق بسبب الفاقة والحاجة المادية، ليصبح توفير الطعام نقمة في بعض البيوت، إذ يسرقها أبناؤنا لإرضاء ملذاتهم، فنفقد القوت والولد». تفاصيل الجنوح أم فواز أرملة لرجل متقاعد من إحدى الدوائر الحكومية بوظيفة مدنية لقي مصرعه العام الماضي في حادث مروري على طريق حفر الباطن، ناشدت «شمس» أن تفرد لها حيزا لبث صرخاتها، وإعلان امتعاضها مما تعانيه من فلذة الكبد الذي بات أشبه باللص الذي يقتات على هبات الصدقات. ولم تتوقف آلام أم فواز، إلى حد تمنت فيه ألا ترى ما مرت به من فاجعة على فلذة الكبد، وبدأت في سرد التفاصيل «تقاعد زوجي من وظيفته براتب شهري قدره ثلاثة آلاف ريال، فيما إيجار المنزل 1100ريال، ومع ذلك فنحمد الله على العيش في ستر وعافية، خاصة أن الزوج كان يوفر بقية المصاريف من عائد سيارة أجرة يمتلكها، حتى تعرض لحادث مروري بها، أنهى الحال، ليتبدل الأمر فجأة بوصول فواز، ابني العاق، الذي بدأ يلقي مشكلاته علينا من كل صوب، وأصبح مثل اللصوص التي تقتات على قوتنا القليل، والسبب ربما صحبة السوء، وصحيح أن الجهات الخيرية تلقفتنا من الحاجة والعوز، لكننا للأسف كنا نحتاج لمن يتلقف أبناءنا من حالة الضياع التي يعيشونها بفقدان العائل المعنوي لهم، فيتحركون حسب مزاجهم وأهوائهم في كل اتجاه، ونحن الضحية». هم يومي وتعترف أم فواز أنها لم تكن تدرك المخاطر التي تجتاحها بفقدان العائل «كان اهتمامي الأكبر في توفير لقمة العيش للأبناء، والتي يعلم الله تعالى أنها لم تكن هما، إذ سرعان ما اقتسم الخيرون همنا اليومي، وتلقفنا الكثير من الهبات، سواء عن طريق الجمعيات الخيرية أو الموسرين، لكننا نعيش الآن في معاناة، إذ اعتاد ابني على حمل ما يقدر على حمله من المنزل، ليرميه في أحضان بائعين يعرفهم جيدا، لينال نصف ثمنه نقدا، ويبدد المبلغ على نزواته». المشكلة عامة لكن أم فواز لا ترى أن المشكلة فردية لا تستحق التطرق لها «لا تعتبرون أن الهم اليومي الذي أعيش فيه حالة فردية، لا يجب التطرق لها، فابني شاب وأنتم تعالجون قضايا الشباب، اسألوا العديد من الأسر الفقيرة والمحتاجة كم فواز لديهم، ستجدون الكثير؛ لأننا نتقاسم الهم كأسر محتاجة، ونتعرف على الآهات، ونكتشف المصائب التي لا يزال الكثير منا يسكت عليها، بسبب الخوف على الفضيحة، خاصة أن بعض الأبناء لصوص اعتادوا على السرقة، حتى في المدارس، والسبب في البداية الحاجة التي ارتموا فيها، لكنهم في النهاية اعتادوا على الأمر، ونحن فقراء مالا وتوجيها، فترى من يوجهنا لما فيه الطريق القويم، ومن يحمي لنا بيوتنا من لصوص تأتي من الداخل، وتقتات على قوتنا، ومن يرد لنا أبناءنا من غياهب الضلال والانحراف؟». الوجه الآخر وقريبا من واقع المجتمع، يعترف شاب تائب من أسرة محتاجة، أنه لطالما أوقع أسرته في حرج بالغ، بعدما ساير رفقاء السوء في مبتغاهم، فحرم أسرته من اللقمة التي يسدون بها الجوع. ويشير «ح. ف» الذي تعدى الرابعة والثلاثين من عمره، إلى أنه عاش ما يقارب من أربعة أعوام من عمره في طريق الحرام عن طريق بوابة الصدقة «كنت لا أحسب للأمر حسابا، وأنتهز فرصة زيارة الموسرين، خاصة في مواسم الأعياد، لأبيع ضميري وأسرق قوت المنزل، لأبيعه مقابل دراهم معدودات، وأحصل على الأموال، وأصرفها على ملذاتي مع رفقاء السوء». الفقر السبب ويرى أن ما ورثه من فقر وحاجة كان السبب في وصوله إلى هذا الأمر «ولدت في أسرة ظروفها المادية صعبة، فأنا ابن واحد، وست شقيقات لأب وأم مسنين لا يقدران على مواجهة مصاعب الحياة، بحكم تقدمهم في السن، بالإضافة إلى وجود فتاتين تعانيان من الإعاقة، كان يأمل والدي في خيرا، ولكنني للأسف خذلته، ولم أقدر المسؤولية، ولم يراجعني أحد، حتى تراجع تعليمي على دون الثانوية، وما أحمله من شهادة الكفاءة لا يسمن ولا يغني، ما ورطني في ذلك التعرف على صحبة السوء، بالإضافة إلى أنني أعيش في حي فقير ومليء بهؤلاء الفاسدين، فأقبلت على تعاطي المخدرات والمحرمات، أما طريقة توفير قيمتها، فكانت عبر المحسنين والمتصدقين، فكنت أسرق المحتويات خلسة من المنزل، أشبه بالفئران وأبيعها في السوق السوداء، بنصف الثمن لعلم المشترين أنها مسروقة، خاصة الأرز في موسم عيد الفطر، وأبددها على السهرات مع الرفاق». ندم وتوبة وفيما بدا الشاب نادما على أفعاله الماضية، اعتبرها فرصة للتأكيد على أن الكثير من أبناء المعوزين والمحتاجين عرضة لهذا الأمر «لست حالة شاذة، لكن من صحبتي من كان يأخذ الأمر بنفس طريقتي، بل كنا نبلغ بعضنا فور تلقي خبر وصول المعونة لمنازل أحدنا، لنسرق نصفها، دون التفكير في مغبة الأمر، لذا فإن التوعية أو بالأحرى انتشال أبناء الفقراء من هذا الفخ أمر مطلوب قبل فوات الأوان». سرقة مسنة ويروي المهندس في شركة بترول بالشرقية أحمد مرعي «28 عاما» موقفا مماثلا تعرض له خلال محاولته فرز المستحقين من المحتاجين «ذهبت كعادتي لتوفير حاجات أسرة محتاجة، لكن في هذه المرة، خرج لي شاب، دون أن تخرج لي المسنة، وتناول مني المقتنيات، بكلمات التوبيخ، وفي اليوم التالي جاءني اتصال من المسنة تكشف لي أن الشاب ابنها الذي يتلقف المعونة والهبات، ويذهب بها إلى حيث الملذات، وهي لا تعرف طريقة لهدايته، إلا بتجنب تلقي المعونات أمام ابنها، لكنها ناشدتني بالعمل على حل يعيد لها ابنها، وتأمن بموجبه على قوت أبنائها الصغار». وتساءل مرعي من تراه يقوم برعاية الفقراء والمحتاجين، بعيدا عن الدعم المادي، ليس حرصا على تأكيد وصول المعونات لمستحقيها، بل تأكيدا لبقاء المعونات في منازل مستحقيها؟ المناصحة مطلوبة حملت الاختصاصية الاجتماعية عبير بوشليبي الجميع مسؤولية ما يحدث، من سرقة قوت الفقراء والمحتاجين «الجميع يتحمل خطأ ما يحدث من بعض المراهقين، وللأسف يفسر البعض التكافل الاجتماعي بطريقة خاطئة، فتوصيل الصدقات إلى المنازل فقط ليس كافيا، للتأكد من مدى استحقاق الأسر للمعونة والصدقات، وعلينا أن نوفر معلومات كافية بالتعرف على المستوى التعليمي لأفراد الأسر». وبينت أن الكثير من الموسرين يجتهد في البحث عن المحتاجين، ويعمل بعضهم على توصيل الحاجات بنفسه إليهم، وينسى الدور الهام سواء في كيفية التوصيل، أو مدى الاستجابة، وهنا مكمن الخطر «أدعو إلى التحقيق الاجتماعي مع تلك الحالات، لنتعرف على همومها الاجتماعية، مثل المادية، خاصة أن كثيرا من الأسر تلتزم الصمت للأسف، حفاظا على السمعة، لكن على الجميع التعرف على معنى التكافل الاجتماعي، وأهميته، بالإضافة إلى طريقة تنفيذه، حتى لا تقع الأسر الفقيرة في فخ الأبناء الخارجين عن أسرهم». لكن الاختصاصية عبير ترى أهمية تصدي الأسر المحتاجة في وجه أبنائها ممن يقومون بتلك التصرفات المشينة من خلال التلاعب بأموال الصدقات «يكون الوقوف في وجوههم بطريقتين، الأولى في حالة استخدام الأبناء تلك الأموال في الأمور المشينة الكبيرة من إدمان وما شابه ذلك، ولا بد وقتها من التنسيق مع الجهات المختصة لوضع حد لذلك، وفي حال استخدام المادة في الأمور المباحة، لا بد وقتها من مناصحته من خلال كبار الأسرة وأصدقاء الخير والمدرسة وإمام المسجد، أو حتى الجهات المعنية» .