تقوم عمليَّةُ التَّحليلِ على مجموعةٍ من المعطياتِ التي لا ينبغي تجاهلها ، أو التهاونُ في التعاطي معها ، ولعلَّي قبل الخوضِ في جوهرِ هذا المقال ، أحبُّ الإشارةَ إلى أنَّ الجملةَ الأولى ، أو ما يُسمَّى بالعتبةِ ، أو الاستهلالِ ، تحتلُّ مكانةً بارزةً من حيث أهميَِّتها من ناحية ، ومن حيث علاقتها ببقيةِ أجزاءِ النَّصِّ من ناحيةٍ أخرى. ولا شكَّ أنَّ القدماءَ قد أدركوا جيّدًا أهميَّةَ الجملةِ الأولى في النَّصِّ ؛ بل الكلمةِ الأولى في الجملةِ ؛ بل امتدت معرفةُ القدماءِ بأهميَّةِ الجملةِ الأولى إلى الأحرفِ المقطَّعةِ في بدايةِ السُّورِ ؛ وعطفًا على ذلك ، فقد حملت كُتبُ البلاغيِّين -خاصةً المهتمين بالإعجازِ القرآنيِّ- جوانبَ متعدِّدةً من أساليبِ التَّحليلِ البلاغيِّ ، ولذلك آثرتُ أنْ أُسلِّطَ الضَّوءَ على أُسسِ التَّحليلِ البلاغيِّ ، من خلالِ كتابِ الأستاذِ الدكتورِ علي عبدالحميد عيسى (التَّحليل البلاغي بين النَّظريَّة والتَّطبيق/2004م- مطبعة السلاموني) ، ومردُّ ذلك ، أنَّني لم أجد ، وذلك على حدِّ علمي كتابًا بسطَ القولَ في هذا الجانبِ ، سواء في جانبِ التَّنظيرِ ، أو التَّطبيقِ بمثل ما وجدته في ذات الكتابِ الذي يقعُ في 383 صفحةً من القطعِ المتوسطِ ؛ لأنَّ ما قامَ به الدكتور علي عبدالحميد يُعدُّ أنموذجًا يُحتذى في التَّطبيقِ البلاغيِّ خاصةً وأنَّه قد اتَّكأ على القرآنِ الكريمِ في تحليله. وعطفًا على ذلك ، ستكونُ مقالاتُ هذه الزاويةِ في الأسابيعِ المقبلةِ سياحةً في عالمِ البلاغةِ المتَّهمةِ بالموتِ والتَّوقّفِ! يقرِّرُ الكِتَابُ في صفحاتِه الأولى أنَّ كثيرًا من النَّظمِ لا يُبْنى على الواقعِ ؛ بل على الاعتقادِ ؛ لأنَّ مراعاةَ الواقعِ يُخْرِجُ الكلامَ عن المقصودِ منه ، ذلك أنَّ أساليبَ البيانِ تُصاغُ على وفقِ ما يعتقده النَّاسُ ، لا على ما يقرِّره الواقعُ ، ويثبته العلمُ. وبناءً على ذلك ، يُقدِّمُ الدكتورُ علي عبدالحميد مثالاً واضحَ الدِّلالةِ على هذا الأساسِ ، وذلك في قوله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) ، فهذه الكنايةُ مبنيِّةٌ على ما كانَ يعتقده القومُ من أنَّ الخائفَ يتقلَّصُ قلبُه ، ويجتمعُ ويلتصقُ بالحنجرةِ ، وتنتفخُ رئتُه من شدِّةِ ما يجد ، وإذا انتفخت الرِّئةُ ارتفعَ القلبُ بارتفاعها ، ولهذا قالوا للجبانِ : انتفخ سحرُه ، أي : انتفخت رئتُه ، فبلوغُ القلوبِ الحناجرَ من لوازمِ هذه الأحوالِ ؛ فلذلك وقعَ كنايةً عنها ؛ لأنَّ الواقعَ والطِّبَّ يقرِّران أنَّ القلبَ لا يتحرَّكُ من مكانِه ؛ فضلاً عن أنَّه يتصاعدُ حتَّى يبلغَ الحنجرةَ ، ولكن هذه الكناية قد بُنيت على ما يعتقدونه. ومن هنا وجبَ التَّبصرُ بما يعتقده صاحبُ القولِ ، وإلاَّ غابَ وجهُ الكلامِ ودلالته ، فضلاً عن حملِهِ على غيرِ وجهِهِ. يقول عروة بن الورد : فإني وإِن عَشَّرْتُ من خَشْيةِ الرَّدَى=نُهاقَ حِمارٍ إِنني لجَزُوعُ وعطفًا على ذلك البيت ؛ فإنِّك إذا لم تدرك العادةَ والاعتقادَ الذي أنّبنى عليه تشبيهُ عروة لا ترى وجهًا للتَّشبيه ؛ بل ربَّما عِبْته ؛ ولكن إذا عَلمت العادةُ والاعتقادُ الذي أنّبنى إليها قولهم -وهو أنَّ الرَّجلَ في الجاهليِّةِ كان إذا دخلَ أرضًا موبوءةً وضعَ يده على قفاه ، ونهقَ عشر مرَّات نهاقَ الحميرِ! حتَّى ينجو من وبائِها رأيت وجهَ التَّشبيهِ وحسنِه ، وأنَّه مصوّرٌ لحالِ نفسهِ وقلقِ فؤادِهِ أتمَّ تصويرٍ وأبلغه.