توسع النقاد المتأخرون في استعمال مصطلح "الصدق الفني"، حيث أخذ معاني نقدية ودلالات نفسية، وكان هذا المصطلح قد استخدم قديماً عند بعض العلماء الذين عمدوا إلى تطبيق الشعر على واقع الحياة فأخذوا يتحرون عن صدق الشاعر أو إحالته، وعن أثر بيئته فمثلاً بيئة ابن المعتز غير بيئة ابن الرومي الذي وصف الرقاقة، على أن البلاغة العربية ليست كما يظن المستغربون من نقادنا لا تحتمل التجديد والتطوير، بل إن قضية الصدق الفني التي نمت في أحضان البلاغة وهدهدها قدامى البلاغيين في مهاد التحري والمتابعة، اتخذت معنى فنياً أكثر منه معنى إيصالياً، وهذا لا يعني أن كل النقاد المعاصرين انحازوا إلى الجانب الفني، بل إن هناك من آثر المعادل الفني الأخلاقي الذي يقوم على الالتزام في بناء القصيدة، وهذا المصطلح لم ينل حظه في الدرس النقدي القديم بالصورة المتأنية المتأملة، فكان يُعرض له تحت مفهوم الصدق مع النفس حيناً، وعند آخرين ينظر إليه على أنه التطابق مع الواقع، وحاول بعضهم توضيحه بصورة أخرى فجعلوه في مواجهة الكذب، وبعودة إلى جهود العلماء قديماً نجد أن هذا المصطلح ترعرع في نشأته الأولى لدى البلاغيين في فهمهم للمبالغة. وكانت قضية الصدق الفني قد نوقشت بغير مسماها في تاريخ البلاغة العربية، حيث نجد ابن المعتز أول من تحدث عن "المبالغة" وقد عدها من محاسن الكلام والشعر، وعرفها بأنها الإفراط في الصفة، وهي تأتى على ضربين: ضرب فيه ملاحة وقبول، وآخر فيه (إسراف). @ (المبالغة) عند البلاغيين القدماء، تقابل الصدق، وقد كانت لهم في ذلك صور ثلاث: أولاً: أن خير الكلام ما خرج مخرج الحق وجاء على منهاج الصدق من غير إفراط ولا تفريط، ومن هؤلاء عبدالقاهر الذي رفض مقولة "أعذب الشعر أكذبه". ثانياً: القبول مطلقاً وحجة أولئك أن أعذب الشعر أكذبه، وأفضل الكلام ما بولغ فيه، ولهذا فالمبالغة تسيطر على الكثير من الأساليب البلاغية كالاستعارة والتشبيه والكناية وغيرها. ثالثاً: التوسط بين الأمرين، فتقبل (إذا جرت على منهج الاعتدال، وهذا رأي جمهرة العلماء، ودليل ذلك وقوعها في التنزيل على ضروب مختلفة، وتردّ إذا جاءت على جهة الإغراق والغلو، ويذم مستعملها). @ فالذين قدموا الكذب على الصدق أشاروا إلى ظاهرة نفسية مهمة هي أن الكذب الفني يعني عدم مطابقة تنسيق عناصر الصورة الشعرية، وذهبوا إلى أن على الشاعر ألا يتقيد بالحدود الزمانية والمكانية لعناصر الصورة، ومن أجل ذلك جوّزوا للشاعر المبالغة في التعبير عن مشاعره، وفي محاكاتها لعناصر الواقع المهيأ، وقد عبَّر البحتريّ عن هذه الحرية بقوله: كلّفتمونا حُدودَ مَنءطِقِكُمء والشِعءرُ يُغني عَنء صِدءقِهِ كَذِبُه بيد أن للكذب الفني القائم على المبالغة في المحاكاة التخييلية مسافة لا يمكن للشاعر أن يتجاوزها، وإلا فقدت الصورة قيمتها الفنية، وناقضت الغرض الذي من أجله صيغت، مما يفقد التخيل قدرته على القيام بدوره المطلوب في الإثارة الوجدانية المناسبة، فتفقد الصورة الشعرية قيمتها النفسية والفنية، ومن الصور الشعرية التي ذمها النقاد قول النابغة الجعدي: بلغنا السَّماءَ غيرةً وتكرماً وإنّا لنرجو فوقَ ذلكَ مَظّهرا @ والذين قالوا بأن أحسن الشعر أصدقه يعنون به الصدق الفني في التصوير والتجارب الشعرية، لا التقيد بالحدود الزمانية والمكانية لعناصر الصورة ووقوفها عند السطح الجمالي الخارجي، أو قصرها على المعاني الصادقة والأساليب الإقناعية من حكمة وموعظة وتوجيه، والتي هي من خصائص الأسلوب الخطابي. @ والصدق الفني هو أن تكون الصورة الشعرية معبِّرة عن تجربة شعورية حقيقية، تعبيراً صادقاً يحسه القارئ من خلالها، فيتفاعل معها تفاعلاً يساعدها في إحداث التخييل المناسب، والذي يعبِّر بالصورة حدود عناصرها في الواقع العياني، ويمنحها التوافق مع حركات النفس الشعورية، وهذا ما عناه حسان بن ثابت بقوله: وإنما الشعر لُبّ المرء يعرضه على المجالس إن كيسا وإن حمقا وإنَّ أحءسَنَ بيتٍ أَنءتَ قائِلُهُ بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتَهُ: صَدَقا مما دفع بعض النقاد إلى أن يقول: "أفضل الشعر ما لم يحجبه عن القلب شيء" ، وأن "أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه"، وهذا يعني أن أفضل الصور الشعرية هي التي تتمكن من النفس بحيث كأنها تعيش التجربة الشعورية التي أراد الشاعر نقلها من خلال الصورة. وابن طباطبا يوضح هذا حين يقول: "فإذا وافقت هذه المعاني هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند مستمعيها"، فإذا خلا التخييل من الصدق الفني كانت الإثارة باردة لا تحرك النفس مهما بذل الشاعر في تحسين الصورة. وهذا ما أشار إليه القاضي الجرجاني بقوله: "قد يكون الشيء متقناً محكماً، ولا يكون حلواً مقبولاً. ويكون جيداً وثيقاً، وإن لم يكن لطيفاًرشيقاً". @ ويُعد ابن طباطبا أول من تحدث بشكل واسع عن قضية الصدق في الشعر، حين ربط الشعر بالصدق من جوانب متعددة: الصدق في التشبيه، والصدق في المشاعر، والصدق في القصيدة. وهو يرى أن الصدق يكرِّم عنصر الشعر، ولذلك فهو يرى أن على الشاعر أن "يتعمد الصدق في تشبيهاته وحكاياته، وأن يستعمل المجاز الذي يقارب الحقيقة".