وأنا أسيرُ في جادّة عكاظ ، بين مغرب الأربعاء الفائت وعشائه ، وللحظة ما (نسيتُ أين أنا)! كانت الجادّة عبارة عن نهر رملي ، يبلغ حوالى الألف وخمسمئة متر ، تجري فيه الكثير من الحكايات عن شعراء جابوا نفس المكان قبل قرون عديدة. شكّل عكاظ التاريخي ما يشبه سوق الأسهم في عصرنا الحاضر. لم يكن هناك شركات على غرار ما نعيشه اليوم. كانت القبائل هي شركات عرب ما قبل الإسلام. رأس المال لكل قبيلة (شركة) هو مجموعة من القيم والمآثر التي لا تعرف الحياة إن لم تجد طريقها إلى الشعر ، وويل لكل قبيلة لم يخرج من صلبها شاعر ، يرفع (مؤشرها) باتجاه الأخضر ، في ذات المكان الذي مشيتُ فيه. هنا كان الشعر نهرًا ذات يوم .. هنا رأيت طرفة بن العبد وهو (يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد). أبصرتُ امرأ القيس ، وهو يحاول أن يفك وثاق النجوم من جبل (يذبل) ، لكي يتخلّص من ليله الطويل.. امرأة تغزل صوفًا على ضفاف النهر الرملي ، شدّتني رشاقة أصابعها ، دوران المغزل في يدها ، انسلال الخيط الأبيض بخفة وعذوبة من كومة الصوف. كدتُ ألتقطُ للمشهد صورةً ، أو مقطع فيديو ، لولا أنني تذكرتُ فجأة (أين أنا). أنا الآن في مكان يحاول أن يستعيد مكانته ، حيث الناس يمشون كثيرًا على الضفتين المرصوفتين بالحجارة ، وكأنهم يتهجون الطريق خطوة خطوة ، إلى أمكنة ضيّعوها منذ زمن طويل. محلات كثيرة تتوزع على ضفاف النهر الرملي تبيع مشغولات يدوية تقوم على معظمها سيدات فاضلات : ومن سوى المرأة يستطيع أن يعيد إلى هذا المجتمع صوابه؟ في آخر الجولة تذكرت الأمسية الشعرية التي حضرت من أجلها. أفق السوق المادي الذي يعد بالكثير (مدينة ثقافية سياحية متكاملة تحتوي على الكثير من القاعات ، والميادين ، والفنادق ، والجادات ، والمتاحف ، والكليات ، والمزارع ... إلخ) لم يصاحبه إلى الآن أفق شعري وثقافي يليق بالأحلام الكثيرة التي بنيت عليه. لا زالت الجائزة الكبرى (شاعر عكاظ) تبحث عن صيغة مثلى لجعلها نقطة استقطاب ثقافي وإعلامي على المستوى العربي ، في ظل الآلية البدائية التي حكمت شروطها ، والتي أدّت في بعض الدورات إلى وقوعها في فخ بعض النظّامين ، الذين لا يمثلون إضافة حقيقية في الشعر العربي. لا زالت الأنشطة المصاحبة تعيد تدوير الأسماء والمحاور المتوسطة والضعيفة في بعض الأحيان ، ولم تشكّل بعد اختراقًا نوعيًا للسائد والمألوف في الملتقيات المحلية الأخرى .. لم يأتِ بعد ، هو أطل برأسه ، أو أنه لوّح بيديه المتعبتين جرّاء قرون طويلة من الغياب والنكران. سنهيئ له ما تبقى لنا من شعر ونثر وورد طائفي ، وسننتظر.