من أشهر مقولات علماء الاجتماع وأقدمها قولهم إن (الإنسان مدني بطبعه) ، أي أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا في وسط اجتماعي. ويؤكد هذه الحقيقة ابن خلدون عندما يذكر أن الإنسان عاجز بمفرده عن توفير أقل احتياجاته ، وهو رغيف الخبز ؛ حيث إن رغيف الخبز قبل أن يصل إلى مستهلكه على مائدة الطعام يمر بمراحل عدة ، وكل مرحلة تحتاج إلى أدوات معينه ، وتلك الأدوات تحتاج إلى صانعين ؛ فهو يحتاج إلى الزراعة ، والزراعة تحتاج إلى محراث ، والمحراث يحتاج إلى صانع ، ثم إن المحراث يتكون من أجزاء عدة وكل جزء قد يحتاج إلى صانع مستقل ، ومن ذلك الحديدة التي تركب في سن المحراث ، ومن ذلك الحبال التي تجر المحراث ، والأداة التي توضع على رقاب السانية لتجر المحراث ، وبعد أن يتم الحرث والزرع ، يحتاج النبات أحياناً إلى السقاية وتلك لها أدواتها التي تحتاج إلى صناع متخصصين ، وبعد أن ينضج النبات ويستوي على سوقه يحتاج إلى حصاد ، والحصاد يحتاج إلى المنجل أو المحش ، وتلك تحتاج إلى متخصصين في صناعتها ، وبعد الحصاد ينقل النبات إلى الجرن ، ويتم فصل الثمار عن السنابل والأعواد ، وهذه تحتاج إلى أدوات خاصة ، ثم يُنقَّى ويُحمل إلى المخازن ، وبعد ذلك يحتاج إلى طحن ، والطحن له أدواته التي تحتاج إلى متخصصين في صناعته ، وبعد الطحن يحتاج إلى عجن وخبز ، وتلك لها أدواتها والمتخصصون في صناعتها. إن رغيف الخبز يصل إلى موائدنا ولا نفكر في المراحل التي مر بها حتى وصل إلينا ، وهذا يحتاج إلى جهود جماعية ، وإلى تقسيم للعمل يقوم على التخصص وعلى الاحتراف في كثير من المراحل. وأكد ابن خلدون أن الله قد زود المخلوقات المختلفة بأدوات تدافع بها عن أنفسها من مخالب وأنياب وسموم ونحوها ، وبدلاً عن ذلك زود الإنسان بالعقل الذي يصنع به أدواته وأسلحته للدفاع عن نفسه ، التي تحتاج إلى الاحتراف وتقسيم العمل والتخصص في صناعتها ، وبالعقل أقام الإنسان المؤسسات المختلفة للفصل بين الناس في الخصومات مثل الشُّرَط والمحاكم ، وقامت الحكومات لحفظ النظام وتطبيق العدالة ، وقامت مؤسسات التعليم والتجارة والمواصلات والاتصالات حتى وصلت اليوم إلى درجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية ، ومن ذلك كله يثبت لنا أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده ، ولو فعل ذلك فإنه سوف يعيش مثلما تعيش كثير من الكائنات بدون مأوى ، بدون طبخ للطعام وتفنن في إعداده ، وتنوعه ، وبدون توافر أدوات الحياة المختلفة من لباس وأسلحة وآلات للدفاع عن نفسه إلا ما توفره الطبيعة من حجارة وعصي وأوراق تجود بها الأشجار والنباتات ونحو ذلك. وتفيد الدراسات بأن السنوت السبع الأولى من حياة الإنسان تمثل أهم مرحلة في حياته ؛ حيث تتشكل فيها نفسيته وطباعه ورؤيته للحياة من خلال ما يحيط به جماعات ، وما يراه بينها من تفاعلات. يُروى أن طفلاً سُمِّي (مانج كو) ، وُلد في إقليم (لو) بالصين ، وقد بذلت أمه في سبيل تربيته وتنشئته جهداً كبيراً ، ومن أجل ذلك غيرت مسكنها ثلاث مرات .. بدلته أول مرة لأنهما كانا يسكنان بجوار مقبرة .. ومن كثرة ما كان يشاهد الطفل من سلوك وتصرفات حفاري القبور بدأ يقلدهم .. فبدلت الأم المسكن ، وكان هذه المرة قريباً من مكان جزارين .. فبدأ الطفل يقلد حركاتهم .. ويقلد حركات الحيوانات التي يتم ذبحها .. فقررت الأم أن تنتقل من هذا المكان إلى مكان آخر ، وكان بجوار سوق فأخذ الطفل يقلد التجار ويسير مسارهم .. وكان بقربهم أيضاً مدرسة فأخذ الطفل يقلد الطلاب ويسلك مسلكهم .. إن السنين تفعل فعلها في الإنسان ، فكلما تقدم في العمر أصبحت له شخصيته المستقلة ، وأصبح يميز المفيد من الضار .. لكن ذلك لا يمكن أن يجعله يستغني عن الحياة الاجتماعية ؛ فلا بد أن يؤثر ويتأثر بها .. إن الإنسان - كما يقولون - ابن بيئته ، فإذا نشأ في وسط اجتماعي يحترم القوانين ، ويحرص على الإنجاز ، ويحافظ على الوقت ، وعلى النظافة ، ويعطي الآخرين حقوقهم فإنه في الغالب يتطبع بتلك الطباع ، وإذا نشأ في مجتمع لا يحترم النظم ، ولا يحرص على النظافة ، ويكتب على الجدران ، ويرمي النفايات في كل مكان ، ولا يحافظ على الوقت ، ولا يحرص على العدل وإعطاء الناس حقوقهم فإنه يتطبع بتلك الطباع حتى لو كانت النظرية التي يؤمن بها المجتمع تختلف عن ذلك ؛ فالعبرة بالتطبيق وبالسلوك ؛ فرُبَّ سلوك أبلغ من مائة خطاب ، والدِّين - كما يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم - المعاملة ، وكل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، وقد كان التجار المسلمون يطبقون ما يأمر به الإسلام في تعاملهم مع الناس ، ومن أجل ذلك دخلت أمم في الإسلام .. إن المعادلة الاجتماعية هي التي تشكل الفَرْق بين أمة وأمة ، وبين شعب وشعب ، وبين أسرة وأسرة أحياناً .. وهذه المعادلة تتكون من خلال سلوك المجتمع وتصرفاته التي تنتقل من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق .. وفي هذا تختلف الشعوب والأمم ..