تنتمي الدكتورة فاطمة الوهيبي إلى ذلك الطراز الأكثر امتيازاً من أهل العلم الذين أخلصوا أنفسهم للمعرفة ، وانكبوا عليها انكباباً. فهي أفق مشرع على البحث والتدقيق والاكتشاف والمراجعة ، وقلم دافق بالمعنى والعمق والأسئلة ونفاذ البصيرة. وهي إلى ذلك كله على مستوى راق من النبل الإنساني والنزاهة ونقاء الضمير مع صلابة في الرأي وصرامة في المنطق وحس عال بالمسؤولية. ولهذا أغنتنا الدكتورة فاطمة بجهدها المعرفي والأكاديمي المتميز في حقل اختصاصها النقدي الأدبي ، ولم تسلم -مع الأسف- كما هم أصحاب المسؤولية والضمير والصرامة والصراحة ، من المتاعب!. كُتُب الدكتورة فاطمة الوهيبي وأبحاثها ، دوماً ، مثال على التفرد ، لأنها لا تقبل المقاربة السطحية ، ولا تألف الاستسهال ، ولا ترضى بالعادي ، وتظل تحفر عميقاً بحثاً عن الغائر والصعب والمختلف .. وأكاد أقول المستحيل. ومن هنا تحيل موضوعاتُ الدكتورة ومعالجاتها القارئَ إلى ممارسةٍ لمتعة الرؤية مع الباحث وبه فتريه مقدار ما يتجشمه الباحث من جمع ورصد ووصف وبناء وتفكيك واستنتاج وتفسير ، فلا يستبدل المعلومة أو الفكرة بجدل المنهج وتدرجه في الوصول إليها ، ولا يصرفه الظفر بالنتائج عن الوعي بما يسبقها من مقدمات تتلازم معها تلازم العلة بالمعلول. كان أول كُتُب فاطمة الوهيبي ، وهو (نقد النثر في القرنين الرابع والخامس الهجريين) (الرياض ، 1411ه-1991م) إعلاناً صارخاً عن اسمها النقدي والمعرفي بتلك الدلالات الجدية الآسرة للمثقفين وذوي الاهتمام. فالعنوان للوهلة الأولى التفات إلى منطقة تكاد تختفي من وعينا بتراثنا بسبب الاهتمام الطاغي بالشعر الذي أفضى بنا إلى تصور منقوص للتراث. وتلك المنطقة المختفية أو الأقل اهتماماً هي النثر الذي يمثل الاهتمام به في تراثنا زاوية للرؤية تمتاز بما يفارق امتيازات الشعر من الفردية والغنائية والشفهية. وبالطبع لم تقل الدكتورة عن التراث ما ليس فيه ، فنقد الشعر هو المساحة الأكبر من اهتمام القدامى ، لكنها كشفت الكثير مما نجهله حتى عن الشعر نفسه الذي لم تكن المفاضلة بينه وبين النثر لترجح بكفته فالكفتان تكادان تتعادلان. وعلى رغم أن مساحة نقد النثر العظمى تقع في دائرة الرسائل والخطب ، فإن القصص والمقامات والأمثال والجوابات كانت تحظى ببعض الاهتمام النقدي ، على مستوى التنظير والتطبيق ، فهناك إشارات إلى السمات الخاصة ببعضها ، وما يشترط فيها من خصائص لتكون بليغة ، وإشارات تدل على تذوق بعض القصص. وقد يتأخر النقد عن نشوء بعض الأجناس كما في المقامات ، ولكنه لا يغيب بالكلية. وأتصور أن هذا الكتاب إسهام في اكتشاف نظرية الأدب في تراث الحضارة العربية الإسلامية ، وهو بما يقوم عليه من جهد الاستقصاء والتتبع والوصف والتحليل ، وبما يكتنزه من مقبوسات وإشارات تحيل على مكتبة ضخمة من المصادر والمراجع المخطوطة والمطبوعة ، سيبقى كتاباً مرجعياً لكل باحث في حقل النقد والنظرية الأدبية العربية. وكان كتابها الثاني ، بعنوان (مسرحة التراث في الأدب المسرحي السعودي) (الرياض ، 1415ه-1995م). وفي موضوعه ، وهو المسرح ، دلالة وعي الدكتورة فاطمة الذي يَبْدَه ويفاجئ ويختلف على الدوام. ذلك أن الحديث عن المسرح السعودي هو حديث عن منشط ثقافي لا يكاد يلفت أو يبرز بوضوح صارخ ، ولا توجد لدينا إلى الآن مسارح عامة. لكن هذا الكتاب يضيء جهداً مبذولاً تجاه المسرح ، ابتدأ منذ محاولة أحمد السباعي التي كادت تجلب له الأذى حين بنى مسرح قريش عام 1381ه-1961م في مكةالمكرمة ، الذي أوقِف فوراً. وقد اختارت الدكتورة التعامل مع التراث والتاريخ في المسرح ، وكشفت عن اتجاهين بارزين فيه ، أحدهما: يعمد إلى نص تراثي فينهل منه قصته ، كما في مسرحية (الشيخ الأسير) ، و مسرحية (المقامة الدينارية) ، والآخر يتخذ الشخصيات التاريخية مادة مسرحية ، كما في مسرحيات: (عمر بن عبدالعزيز) ، و (غرام ولادة) ، و (المثنى). ويأتي كتابها عن (نظرية المعنى عند حازم القرطاجني) (بيروت ، 1423ه-2002م) ليشكِّل انعطافة مهمة في وعيها الفكري والنقدي. إذ تسعى في هذا الكتاب إلى تنظيم المادة المتعلقة بهذه النظرية وتصنيفها وتحليلها ودرسها لإبراز مبادئها وأسسها وآلياتها ونظامها والعلاقات فيما بينها. وهنا يبرز مفتاح المصطلح الذي يحيل على اللغة من حيث هي بوابة الامتياز الفكري ، فلكل مُنَظِّر مصطلحاته التي يغدو الاكتشاف لدلالتها والعلاقات بينها أساس قيمته بوصفه فاعلاً معرفياً ونقدياً ، وهي مصطلحات توجه فكره وتنتجه فهي بمثابة الأفق الذي يفتح له أبواب الفكر ويصل بينها وفي الوقت نفسه هي السجن الذي يأسره في اتجاه فكرة دون أخرى. وتبدو الدكتورة فاطمة في هذا الكتاب بوعي بنيوي قادر على رؤية شبكة العلاقات بين المفاهيم واكتشافها. أما (المكان والجسد والقصيدة: المواجهة وتجليات الذات) (بيروت ، 1425ه-2005م) فهو كتاب خصصته لشعر المرأة ، ويتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى سياق النقد النسوي Feminist Criticism حيث مواجهة المرأة لاستبداد الذكر ، وهو مغزى واضح في الكتاب ، لكنه يأخذ مداراً معرفياً أوسع من خلال موضوعة المكان الذي يؤثر ويوجه الخطاب الشعري ، وموضوعة الجسد الذي يصبح أشد حساسية إذا ما تعلق بالمرأة ، وموضوعة أنثوية الشعرية. وكما هي العادة لدى الدكتورة نواجه بكتابها هذا وجهاً جديداً مختلفاً لا تكرر فيه نفسها وإنما تجترح أفقاً جديداً ، وتبرهن على رغبتها الاتساع بأفق قارئها واجتراحها المستمر لشموس تكشف للإنسان فضاءات أوسع. وفي كتابها (دراسات في الشعر السعودي) ( الرياض ، 1426ه-2005م ) يبدو اهتمامها بالنص الشعري في تجلياته الحديثة ، سواء في شكل التفعيلة ، أم في قصيدة النثر. ويضم الكتاب أبحاثاً تبرهن على اتساع الأفق النقدي للمؤلفة ، وقدرتها على الغوص في طوايا النصوص ، وتفتيق مفرداتها وتراكيبها ، وتأويل دلالتها الرمزية استناداً إلى ذخيرة ثرية بالمعاني وذات رهافة ومرونة في التذوق. وهي ممارسة نقدية نصوصية يجاوز معها النقد إلى درجة إبداعية للمعنى وتنتهي إلى ترويض جموح التجريب واستئناسه ، بقدر التأكيد على فعل القارئ ودوره. أما آخر ما أصدرته وهو (الظل: أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية) ( الرياض ، 1429ه -2008م) فنمط آخر من تجاوزاتها المستمرة التي لا تدع طروحاتها تضيق أو تنضب. إذ تتَّبَّع في هذا الكتاب ، من منظور فينومنولوجي ، فكرة الظل وتيمته في مساحة واسعة من حقول الأدب والميثولوجيا والدين والتصوف والفلسفة ، حيث التجليات المختلفة لعلاقته بالروح والجسد والموت والحياة والمرأة والخيال والحلم والإبداع. فتوصِّف المقولات حوله ، وتكشف عن المحاور والثنائيات التي صاحبت مفهومه ، سعياً إلى اكتشاف بنية الظل وهويته ، والوحدة الكلية التي تجمع تفكير الثقافات حوله على تنوعها وامتدادها. حين تُذْكَر فاطمة الوهيبي نذكر تلك الأسماء البارزة من نساء المملكة اللاتي صنعن بجهدهن العلمي البطولة الأنثوية ، وثابرن لحفر بصمة الإنجاز الفائق في مساحة العالم التي لا تكترث إلا بالفكر المُنْتِج. ولا شك أن تقاعدها المبكر جعلني وغيري من زملائها وزميلاتها وطالباتها في الجامعة على درجة عالية من الحزن والأسف ، لكنني واثق أنها لن تكف عن البحث والكتابة والتأليف ، وواثق في الوقت نفسه أنها ستحظى - إن شاء الله- بما هي جديرة به من التكريم والتقدير.