الزيارات الأولى للمدن لا تُنسى، كالعلاقات الحميمة الأولى بين البشر. ذات يوم من صيف 1997 وجدت نفسي متجهاً إلى حمص. سافرت بصحبة زوجتي وابني، من بيروت إلى طرابلس، ومن هناك إليها. ولا أدري لماذا اتخذنا هذا المسار بعد جولة فسيحة في لبنان الجميل سهلاً وجبلاً. الذي أعرفه جيداً أن الطقس كان بديعاً، وأن السيارة العتيقة كانت وفيّة، وأن تقارب المسافات بين هذه المدن والبلدات الجميلة يدل على تشاكل البشر طبعاً وثقافة، «وطن واحد والحدود لا تحصى». وجدنا الصديق محمد البقاعي رتب لنا حفلة عشاء في مطعم «ديك الجن» المطل على نهر العاصي. حضر زملاء من كلية الآداب جلهم من قسم اللغة العربية، ودعي أبو فيصل، ذلك العجوز الوقور الذي لم أعرف مكانته جيداً إلا حين رأيت الجميع يحتفون به، كما لو كانت تلبيته الدعوة كرماً منه لا من الداعي. قيل لي، همساً، إنه من سلالة مناضلين شرفاء ضد المحتل الفرنسي، وإنه يعد المسؤول الرسمي الأول في منطقة حمص، وهي الأكبر في سورية، فقلت لعل مجيئه حفاوة بنا أيضاً. ولأن الجلسة كانت عائلية حميمة فقد شعرت بأننا بين أصدقاء وأهل، وهذا ما جعلني أنسى لغة المجاملات حين سألني المسؤول الكبير عن انطباعاتي عن البلد، قلت له إنني وصلت للتوّ ولا أحب أن أستل من الذاكرة صوراً تؤثر في كلامي ولن تتطابق مع الواقع. أصر على سماع رأيي، سألته إن كان يفضل إجابة الضيف، أو إجابة شخص يعد نفسه من أهل البيت! ولم يتردد في اختيار الموقف الثاني. قلت، وبكل عفوية، إن البلد جميل، لكني أعتقد أن الشعب أرقى من النظام! ولم أقلها من باب السياسة فقط، قلتها لأنني ما صاحبت أحداً من بلاد الشام إلا ولمست في كلامه وتصرفاته أثراً بيناً لإرث حضاري عريق يشوهه الواقع ويكاد يمحقه ويمحوه، فخلال عشر سنوات في فرنسا كنت قد عرفت كثيرين، من دمشق وحلب واللاذقية ودمشق ودرعا والحسكة ودير الزور... ومن حمص طبعاً. وعلى رغم أن منهم الإخواني واليساري والقومي البعثي أو الناصري، إلا أن ما يتفق عليه الجميع هو الشكوى المرة من قسوة النظام وفساده، ثم إن ذلك العنت الذي واجهناه طوال الطريق من جند الدولة أثار غضبي وتقززي «أظنني دفعت أكثر من أجرة التاكسي كي نعبر الحدود والحواجز بسلام»! صمت صاحبي برهة فرأيت على وجوه الزملاء الفضلاء ما يشبه الوجوم الوجل، أدركت أنني وضعت رجلي في الصحن الساخن، كما يقول الفرنسيون. قلت في نفسي إنها حماقة «ديك الجن» تتكرر بصيغة أخرى، والعتب على المكان. فعلا شعرت بالقلق والحرج فقررت أن «أرقّعها» كما يقال. كنت سأشير إلى السلوك المشين لأولئك الجنود الرسميين الذين يفترض أن يمثلوا القانون ويحترموه، لكنهم تحولوا إلى جباة ولصوص، وليس لتصرفاتهم الفظة وغير الأخلاقية صلة بأريحية الناس الذين عرفت من قبل، والذين هم معي لحظتها. وأظن ذلك العجوز النبيل تفهم الموقف، بل سرّ برأيي وأعجب بصراحتي. نعم، لقد رفع رأسه وكأسه ليقول «بصحتك أبو توفيق... ويا ليت كل ضيوفنا بيحكوا هيك». رأيت علامات الارتياح تعود إلى تلك الوجوه الوسيمة السمحة. طبعاً ارتحت مثلهم، وأكثر ربما. لا أحب، ولا يليق بي، أن أتسبب في أي حرج أو إزعاج للزملاء والأصدقاء. فالنظام عسكري استبدادي عنيف. لا شك عندي في ذلك. ولو تورطت مع شخص غير صاحبنا لدفعت الثمن، أو لدفعه غيري، فالصراحة في حضرة من يمثل نظاماً دكتاتورياً وقاحة مرفوضة أو جريمة تستحق العقاب (وما زلت على يقين أن جملة كهذه في عراق صدام، أو في ليبيا القذافي، كانت ستتحول إلى كارثة حقيقية). المهم أن الرجل تفهم ورفع الحرج عن الجميع، ولا يعنيني إن جاء رده غير المتوقع مجاملة أو اقتناعاً، فقد استعادت السهرة ألقها بعد توتر عابر وهذا هو الأهم. جاهدت كي أستعيد حصافتي فلا أزلّ. فتحت الباب أما حكايات ديك الجن والمتنبي وأبي العلاء وأبي فراس الحمداني فخيل لي أن كل واحد من الموجودين خبير ذاكرة وذخيرة معلومات وقصص وقصائد لا تنفد، وشكراً لحقل الأدب والثقافة الذي يظل أرحب وأجمل من حقل السياسة المليء بالحفر والألغام. لكن ما حدث نهاية السهرة هو الذي طمأنني حقاً، وسر الزملاء كثيراً في ما يبدو. لقد أصر «أمين الفرع» على دعوتي الى الغداء ظهر اليوم التالي، حاولت أن أعتذر فأشار أحدهم بضرورة قبول الدعوة فاستجبت كي لا أختم السهرة المشعة بحماقة ثانية. كان شرطي الوحيد أن تكون جلسة خفيفة لا تأخذ الكثير من وقته ووقتنا، فقبل. في اليوم التالي قيل لي إنه لا يفعلها إلا نادراً، ومع من يحب أو يحترم فتعززت مشاعر الاطمئنان. تجولنا خلال بضعة أيام في حمص وضواحيها ونواحيها القريبة. والحقيقة أنها بدت فضاءً ريفياً أليفاً جميلاً، طبيعة وبشراً، خصوصاً لمن يقدم إليها من صيف الرياض الجهنمي، وإذا كان الفضاء كله يعاني مظاهر الإهمال فذلك قدر مشترك لكل المدن العربية البعيدة من عاصمة السلطة التي يراد لها أن تختزل الوطن، كما يختزل الحاكم المستبد المواطنين. ولأن عين الأجنبي فضولية دائماً فقد لفتت نظري بعض التفاصيل التي تنوعت وراحت تنمي المفارقات، وكان لا بد من طرح التساؤلات بشأنها. هناك مصفاة نفط أنشئت غربي حمص لتنفث دخانها الملوث في هواء المدينة وحلوق البشر. ولأن قامات الأشجار المنحنية شرقاً تدل على اتجاه الرياح، فقد تساءلت مندهشاً عن سر اختيار هذا الموقع من دون غيره، وحين قيل لي «إنه الفساد» حزنت وانطويت على صمتي. لاحظت أن الناس يقضون وقتاً طويلاً، ومنذ الضحى، في المقاهي يثرثرون ويدخنون الأرجيلة ويلعبون الدومينو وبعضهم يتصفح الجرائد (ولا صعوبة في التمييز بين من يقرأ ومن يراقب الآخرين). حين تساءلت عن علة هذه الظاهرة غير المنسجمة مع ثقافة مجتمع عرف طوال التاريخ بهمته في العمل الفلاحي ومهارته في العمل التجاري والحرفي قيل لي «إنها البطالة». تعبيرات نمطية ولاحظت ما هو أعم وأهم. أعني ذلك الحذر الشديد في استعمال اللغة، خصوصاً في فضاءات التواصل العام. لم أكن مقبلاً من سويسرا أو من السويد. اعتدنا مراقبة الفعل لا الكلام، أما هنا فكلاهما مراقب، وبصرامة في ما يبدو. من حين الى آخر كنت أتعمد إرسال بعض الرسائل عن الوضع، فإذا بأكثر ما أسمع تعبيرات مجازية جميلة ظاهرياً، لكنها تعبيرات جاهزة نمطية وامتثالية في الوقت ذاته. ولم أسأل أحداً عن سر تفشي هذه اللغة. فأنا أعرف جيداً أنها عادة ما تتفشى في المجتمع الذي يعاني وطأة القمع الشديد، فالكلمات والتعبيرات المقبولة محددة سلفاً، من هنا لا تعود اللغة مجال رهان تفاعلي مفتوح بين المتحدثين بل وسيلة اختبار لمدى قرب الناس أو بعدهم عن السلطة. ونظراً لكون الأفراد ينزعون بطبعهم إلى الحوار المتحرر من كل رقابة خارجية، فكثيراً ما يحدث التوتر ويشير إلى القطب المتحكم في علاقات القوة، ولا بد أن تبرز المفارقات الأهم والأعمق. فهذه اللغة، المشوهة بمعنى ما، ليست السبيل الأمثل للتواصل بين البشر، لكنها الوسيلة الأفضل للتعبير عن ذات حذرة تعيش وتتكلم على حافة الخطر المحتمل. إنها تعي، ولو حدساً، مآزقها، لكنها لا تستطيع تسميتها، ولا تريد الاستسلام تماماً للخوف والصمت، كأن اللغة ذاتها ضحية تعاني نصيبها من التوتر فتتمزق العبارة الواحدة بين أقطاب دلالية متنافرة. والسبب أن الذات المتلفظة مطالبة بأن تكشف عن وجودها وتستره في اللحظة ذاتها، وهكذا تتلعثم وتتعثر بالكلمات التي يفرط في منطقها فترد لتسلب القول منطقيته، بل سويته. وضعية شاذة حقاً وعلتها العنف العبثي الأعمى. ولحسن الحظ أن المخرج لم يكن بعيداً أو عسيراً. يكفي أن يثار موضوع خارجي أو موضوع ثقافي عام حتى تنطلق الأصوات وتعود صورة السوري المعروف بالفصاحة والبلاغة منذ القدم (تذكروا سهرة المطعم). طبعاً، اللغة الرسمية الملفقة المتخشبة منتشرة في كل مكان ومطلوبة كل لحظة من كل أحد. لكن الناس لا يحبونها ولا يثقون في من يستعملها إلا على سبيل المكر أو المجاملة. ولم أثق قط في ذلك المثقف الرث الذي كان يتباهى بكونه المسؤول عن دار نشر يملكها عسكري كبير (عماد) وعما يتبعها من مكتبات! كان يحاول أن يكون لبقاً أنيقاً في الظاهر، لكن الطبع فضّاح. فما إن يتكلم حتى يبدو سطحياً أنانياً، تتدفق الأكاذيب الفجة والحماقات الساذجة على لسانه (أكثر من مرة تمنيت أن أردعه لأنه لم يكن يتورع عن استعمال تلك اللغة السلطوية العدائية المتعالية مع صديق أعمق منه وعياً وأرفع خلقاً). علامات الكآبة وهناك ملاحظة تكاد تكون ظاهرة في حمص وفي جل المدن العربية وتتصل بالقمع ذاته، كما تبيّنه إدوارد سعيد. إنها تلك الكآبة التي تجلل وجوه البشر، وتطل من نظراتهم، وقد تتجلى حتى في أشكال الملابس وألوانها. حال غير إنسانية تجعل بعض الوجوه تبدو بائسة يائسة تثير الشفقة، فيما توحي وجوه أخرى بأجمل معاني الصبر والنبيل، كما لو أن الكآبة والحزن مجرد أقنعة في مسرحية تراجيدية تعاش كل يوم ولا تكتب أبداً. وقد صدق أحد الأصدقاء إذ قال «إذا رأيتم مجموعة من الناس يتحدثون بأصوات عالية ويضحكون براحة بال فتأكدوا أنهم لبنانيون»، ويا للمفارقة! شعب يخرج للتو من حروب طويلة طاحنة ومع ذلك يحب الحياة ويحسن الابتهاج، وجاره الأقرب يعيش هدنة طويلة لكنه يبدو متحفظاً صموتاً وحزيناً. ضعف الدولة وقوة الفرد هناك، وقوة الدولة وضعف الفرد هنا. حريات متسعة حد الفوضى من جهة، وحرية مكتومة حد الفقد من جهة أخرى. مصادفة برهان غليون كأن حال الحرب أهون من حال القمع، وإن كانت كل الحروب قذرة. ولأن صديقي قالها في شكل نكتة حمصية عفوية ذكية فقد تيقنت مجدداً أن السخرية ليست حكمة العالم كما يقول «نيتشه»، بل هي أيضاً حنكة الناس البسطاء، هنا وفي كل مكان، ضد حماقة السلطة. حين قابلت برهان غليون مصادفة في أحد المقاهي فرحت واستبشرت خيراً بوجوده هنا، وهو المنفي منذ أعوام! كنت قد عرفته في باريس أيام دراستي وقابلته مرات عدة، وسعدت بحضوره مناقشة أطروحتي مع لفيف من المثقفين الأصدقاء. لكن مفهوم المعرفة غنيّ الدلالات. عرفته عبر كتاباته مثقفاً نقدياً يعي القمع ويكتب ضده ويبشر بالديموقراطية مخرجاً وحيداً من حال الاحتباس الحضاري الذي تعانيه مجتمعات تورطت في دولة الاستبداد التي لا يمكنها أن تشتغل إلا ضد الوطن وضد الإنسان. عرفته في المقهى والمطعم شخصاً مهذباً ودوداً متواضعاً لا تحدثه أو تنصت إليه إلا وتتوهم وتصدق أنه صديقك... ومنذ وقت طويل. عرفته في قاعات المحاضرات (قبل أن يعين أستاذاً في السوربون) باحثاً جاداً واعياً يحسن الإنصات، وحين يسأل أو يعلق أو يحاور فالمؤكد أنه يثير إعجاب البعض واحترام الجميع لأنه قد يتكلم بعفوية وانفعال أحياناً لكنه يظل صادقاً مع نفسه وفياً لقناعاته عقلانياً في رأيه. ولا أظنني أبالغ في المدح، وإن بالغت فلي الحق، فكل من تابع كتبه ودراساته ومقالاته ولقاءاته التلفازية لا بد أن يثمن فيه روح المثقف، المفكر المسكون بهموم الناس اليومية لا بالنظريات المجردة التي قد يتزيا ويتزين بها المثقف المنعزل. من المنطقي إذن أن أسعد بلقائه في ذلك المقهى الحمصي البسيط. فالمفاجأة كبيرة حقاً، والحديث معه أعادني إلى اللغة التي أحب وإلى صورة المثقف الذي احترم. هل راودتني الهواجس من عودة الابن الضال أو العاق إلى بيت العائلة ؟ نعم، وبكل صراحة. لكنها سريعاً ما تبددت ولحسن الحظ. لم أشعر في أية لحظة أنه عاد ليساوم على أفكاره ومواقفه فيريح ويستريح. لم أشعر في أية لحظة أنه عاد ليكسب مالاً أو وجاهةً أو منصباً، على رغم استحقاقه. لم أشعر في أية لحظة أنه عاد ليمجد الشرق ويتوب عن خطيئة العيش ردحاً من الوقت في «غرب الخصوم والأعداء»، كما يفعل بعض المثقفين المحبطين، ولم ألمس من حديثه أنه عاد ليستريح من النضال ضد سلطة شرشت وتكرست. قال إنه يعود إلى حمص للمرة الأولى منذ أعوام ليلقي محاضرة في جمعية الخريجين وبعدها سيرجع إلى منفاه الباريسي ومسكنه. سعدت أنه زار بلاده العزيزة ورأى أهله وصحبه الكرام. لكنني خشيت عليه من الغدر. وحين فاتحته في الأمر، بحذر بالغ، تبين أنه لا يجهل المخاطر، لكنه يستبعدها وإلا لما غامر. ولم أره بعدها في حمص (وقد رحلت منها إلى حماة ومن ثمة إلى طرطوس فدمشق). رأيت خلال تلك الرحلة مثقفين يخونون الثقافة كلما تحدثوا لغة السلطة القبيحة، سواء عن قناعة أو نزولاً عند مصلحة. لكنني رأيت وسمعت مئات الآخرين يتحدثون لغة معارضة لكل تسلط مقاومة لكل قمع. لا شك في أن هذه اللغة المتفائلة تظل سرية أو هامشية، لكنها تتدفق حيوية قوية كلما اتسع لها المجال. وهذا هو الأمر الطبيعي. فهناك جذوة لا تنطفئ في هذا الكائن الذي خلق، أو وجد، إنساناً ناطقاً عاقلاً حراً كريماً... وسيظل. وإذن فمن المنطقي تماماً أن يلتحق السوريون الكرماء الشرفاء بالربيع العربي، ومن المثير للأمل أن يترأس مفكر كبرهان غليون المجلس الوطني في المنفى. لكن الفرحة لن تتم إلا حين يعود ليحتل موقعه في الدولة الوطنية الجديدة، ولو موقتاً، كأبي يعرب المرزوقي، وستكون هذه أجمل المفارقات لا ريب، فهذا الشخص الحيي المتواضع، وهذا الأستاذ الجامعي اللامع، وهذا المفكر المجتهد الخلاق ما عرف قط حريصاً على أية زعامة أو محتاجاً لأية رئاسة. أعان الله حمص وبقية المدن والبلدات والقرى الثائرة على سلطة الاستبداد والفساد، التضحيات جليلة، لكن الغاية نبيلة، وإنا لواثقون من النصر. نعم، لقد ولّى زمن الطغاة وإلا لما تساقط بعضهم كأوراق الخريف والباقي في الطريق، إن شاء الله. * ناقد وروائي سعودي