الأسبوع الماضي كنت في مصر. تعودت على زيارة مصر سنويا منذ عام 1976 وأحيانا مرتين أو ثلاثا في العام ، ولي فيها زملاء وأصدقاء ومعارف كثر ، وعلى وجه العموم فأنا من عشاق مصر ومن محبي أهل مصر ، فهي بحق (أم الدنيا) ، وهي مدرستي الأولى في الثقافة والأدب والصحافة والنكتة ، وهي مهد خفة الدم والروح بكل معانيها ، وهي موطن الفن والإبداع والآثار والتراث والأصالة والجمال ، وهي مهد الصبر وميدان عظمته منذ فرعون حتى مبارك ، وهي قوة العرب حين تنهض ، وهي نقطة ضعفهم الكبرى حين تغيب ، وهي الآن محط آمال الشعوب العربية وراسمة مستقبلهم ، فطريقها هو طريقهم ونجاحاتها هي نجاحاتهم. زائر مصر بعد ثورة 25يناير لا بد أن يلحظ بوضوح صارخ أن كرامة مصر وقامتها الشامخة منتصبتان بين عيني كل مصري ومصرية ، اختفى من الحياة الخنوع والخوف والذل ، جاءت الحرية فجبت ما قبلها ، المصري الذي كنت فيما مضى تسمعه يردد (عاوزين نعيش) ومعها نكتة يتهرب بها من أي تساؤل جوهري أو نقد أو تفكير مهم ، مازال يرددها ولكنها الآن مصحوبة بالتخطيط والتعليل والرأي والنقد ، وبين الحالين مسافة شاسعة ، وللذين يجيدون قراءة مدلولات النكتة والسخرية التي أكثر من اشتهر بها إخواننا المصريون يكفي أن أقول لهم إن هذه النكتة وتلك السخرية تكادان تلفظان أنفاسهما الأخيرة ، دون أن تتأثر خفة دم المصريين التي تحولت إلى فرح عارم ونقاش جاد ونقد عميق يمارسه سائقو التكاسي والعمالة والباعة في كل مكان والصحفيون والفنانون والساسة وأساتذة الجامعات وغيرهم. الرأي العام في الشارع المصري يمكن الوصول إليه بسرعة. الزميل (جمال إسماعيل) مدير مكتب صحيفة الشرق السعودية في القاهرة ، صحفي مخضرم ومن المؤيدين للثورة ، وهو يرى أنها أثرت تأثيرا سلبيا عميقا على الاقتصاد وخاصة السياحة ويستشعر آلام العاملين في هذا القطاع ومعاناتهم ، لكنه يرى أن الوضع مؤقت وأن هذا ضريبة الانتقال من زمن الدكتاتورية إلى زمن الكرامة والحرية ، وهو يرى أن هناك تباطؤا واضحا في عمل المجلس العسكري ، وهناك بديهيات لم يفعلها المجلس فأوحى للناس وكأنه يريد إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة ولهذا خرج الناس مرة أخرى إلى ميدان التحرير وغيره من الميادين مطالبين بحماية الثورة ووضعوا مطالب بعضها معقول تمت الاستجابة له وبعضها غير ممكن ويمكن تأجيله ، ويضيف جمال أن بيان المجلس الأخير إيجابي في مجمله إذ لا بد من ضبط الأمور وإيقاف المطالب والاعتصامات الفئوية وتهيئة الأجواء والأنظمة والأطر للانتخابات التشريعية وكتابة الدستور الجديد. أما (ناصر)- عامل في بهو الفندق – فقد كان يستمع إلى حوارنا فوضع الشاي والقهوة على طاولتنا ثم استأذن ليقول: نحن كنا في زمن مبارك أفضل من هذه الفوضى الآن ، كيف نعمل ؟ كيف نعيش ؟ وبعد نقاش وحوار بين جمال وناصر – في السابق لم يكن عاديا أن يتحاور صحفي مع عامل – تدخل السائق محمد ليقول نحن على مستوى الكرامة والحرية أصبحنا أفضل مليون مرة ، أما حال الاقتصاد فمؤلم جدا لنا فنحن لم نعد نجد عملا ، وبعد أخذ ورد بين الثلاثة اتفقوا على أن القادم أفضل. الزميل الصديق الأستاذ خالد بوعلي مدير عام مؤسسة الشرق أجرى استفتاء عشوائيا في الشارع مع نحو عشرة أشخاص في أعمال مختلفة في قطاع السياحة ليجدهم جميعا يتفقون في الرأي مع ناصر ومحمد ومعهم حق فالفندق الشهير الذي نزلنا فيه كانت نسبة الإشغال فيه لا تتجاوز 25% ، بينما كان من الصعوبة بمكان أن تجد فيه غرفة واحدة في مثل هذا الموسم ، وقابلنا خالد وأنا عشرات الصحفيين وبعض الفنانين والسياسيين وكلهم يتفقون مع جمال مع اختلافات طفيفة في التفاصيل ، وواضح أن هناك فجوة واسعة بين المؤيدين أمثال جمال وهم كثر ، وبين المحبطين أمثال ناصر وهم أكثر وداخل هذه الفجوة يأتي المجلس العسكري بتباطئه ، وتأتي مجموعة من المزايدين الإعلاميين والمستغلين وأصحاب الأجندات مع حضور خجول للعقلاء أمثال الصحفي الكبير نصر القفاص الذي بدأ برنامجا تلفزيونيا متميزا في إحدى القنوات لكنه لا يكفي وحده وسط مزايدات كثيرين من أصحاب شعارات يدغدغون بها المشاعر ويؤلبون العامة ضد منطق الدولة ، ومع كل ذلك لا خوف على مصر فالأمن كما عشنا مستتب ، والكل ينتظر الانتخابات القادمة ، وأهم منها الدستور الذي طمأن المجلس العسكري الناس عليه ، إذ إن الكل يرى بثقة وتطلع واهتمام أن الرئيس الحقيقي الدائم لمصر المستقبل هو الدستور.