كثيرًا ما يُحدِّثنا الواقع عن جرائم يقع فيها بعض أفراد مجتمعه ، التي لا يقف ضررها عند حدود مرتكبها ؛ ولكنَّها تتعداه إلى غيره ؛ ما يكون لها أكبر الأثر في حياته ، وفي المجتمع المحيط به ، وكثيرًا ما يحمّله المجتمع تبعات ذلك الجرم ، متناسيًا أنَّ المجرم في نهاية المطاف ربيبه ، والسّاكن بين يديه. إنَّ الجراءة على ارتكاب الجرم صغر أو كبر لا يخرج عبثًا بلا مقدمات ؛ بل من نبتة هذا المجتمع ، لا أقول مدارسه ، ومعاهده ، وجامعاته فقط ؛ بل من كلّ أطيافه بدءًا بالأسرة الصّغيرة ، وانتهاءً بالمجتمع الكبير. ولذلك فلا تثريب على القائلين إنَّ على المجتمع أنْ يعيد قراءة نفسه قراءةً تأخذ أبعاد الجرم ، لا فاعل الجرم نفسه. إنَّ مَثَل هذا المجتمع كمثلِ الأب الذي لا يعرف خيبة ابنه ، وصعلكته ، وطيشه إلاَّ ساعة الإخفاق ، ووقوع السّوءة ؛ ونسى ، أو تناسى دوره الذي يجب: رعايةً ، واهتمامًا ، ومتابعةً. وأنَّى له معرفة كلّ ذلك الواجب وهو ساهٍ .. لاهٍ .. غائب لا يعرفه إلاَّ تلك السّاعة: خيبة ، وإخفاقاً ، وارتكاب جريرة. فما أجمل أنْ يعد المجتمع تنظيم نفسه بين الحين والحين ، وما أجمله وهو يرسل نظرات صادقة ناقدة في جوانبه ليتعرّف على عيوبه ، وآفاته ، ومواجعه ، وما أسعده وهو ينشر أدوات العلاج ليتخلّص من هذه الزّلات والسّوءات التي تزري به. وما أسعدنا ونحن نعيد ترتيب أوراقنا ، ونتحسّس مواطن الخلل ، فنستعجل العلاج النّاجع لها. ونتحسس -أيضًا- مواطن الصّلاح فنهبُّ جميعًا لتعزيزيها وتقويتها. في كلّ المجتمعات بلا استثناء مواطن خلل مُرْتبكة هزيلة .. وفي كلّ المجتمعات مواطن فوضى حاضرة بأسباب معروفة ، أو مجهولة .. أليس من واجب الفضلاء والعقلاء تصنيف هذه المهازل والسّلوكيات الخاطئة ، وعلاجها والتّحذير منها ؟! أليس من الواجب اللازب معرفة أسباب هذه الفوضى الأخلاقيّة ، والبحث عن علاج ناجع لها ؟! ألا يستحق مجتمعنا بعد هذا الإعمار أنْ يتعهّده أولو الألباب شأنًا شأنًا ، وخللاً خللاً بين الفينة والفينة ؛ ليرى ما يعتوره من اضطراب ، وما لحقه من سوءة فيسعى الصّادقون لنفيه وإزالته ، وبعث الجديد النّافع مثلما تنفي القمامة عن ساحات الطّهور ، ومثلما تزرع الورد العطر في ساحات القمامة. أليس من الواجب أنْ نراجع الأشواط التي قطعناها ؛ إنْ خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، كي نعيد إليه توازنه ، واعتداله ، وصلاحه ، كلّما لاح في الأفق بوادر خلل أوعوج. إنَّ المجتمع أحوج ما يكون إلى التّنقيب في أرجائه ، وتعهد جوانبه بما يصونه من العِلل والأمراض. وإنَّ الكيان الاجتماعي قلّما يبقى متماسكًا في ظل حدّة الاحتكاك والتّواصل الكوني , وفي وجود صنوف الشّهوات والمغريات ، فإذا ترك لعوامل الهدم تنال منه ، فهي آتية عليه لا محالة ، وعندئذٍ تنفرط المشاعر العاطفيّة والعقليّة كما تنفرط حبّات العقد. إنَّ علينا أن نفهم أنَّ من ضرورات الحياة الاجتماعيّة السّويّة العمل الدائم لتنظيم هذه الحياة ، وإحكام الرقابة عليه ، وأنَّ على المجتمع أنْ ينظر إلى المجرم على أنَّه خلل لا في سلوك المجرم نفسه فقط ؛ بل في البنية الاجتماعيّة بأكملها.