تبدأ رواية محمد الأشعري (القوس والفراشة) (2010) ، وهي قسيمة رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم في الفوز بجائزة البوكر للرواية العربية هذا العام ، بحدث الرسالة ذات السطر الواحد ، في لحظة قراءة الراوي - وهو الشخصية الأولى في الرواية - لها ، وما أحدثته فيه وفي محيطه العائلي وعلاقاته الإنسانية ووجهة نظره إلى الواقع والعالم من ارتجاج وانقلاب وتلون ؛ ولهذا أصبح مضمون هذه الرسالة محوراً نصياً في تكون أحداث الرواية وتبلور أساسها الموضوعي والدلالي ونموه وتشعبه ، وهو ما جعل الرواية تتجه إلى المساحة الأكبر التي تندرج حياة الشخصية فيها ، أعني مساحة المجتمع أو الواقع المغربي ، الذي تنتمي إليه الرواية وتتخذ منه فضاء لأحداثها ، في تجلياته بوصفه سلطة وجود وثقافة وإدارة ، وهو الواقع الذي لا يختلف عن أي مجتمع عربي بشكل جذري ، بحيث تصبح موضوعة الرواية الأساس همّاً عربياً وإسلامياً بامتياز. وذلك من دون أن نفقد التعاطي مع نماذج إنسانية وفعاليات بشرية لها مشاعرها المختلفة ويومياتها الصغيرة والمتناثرة ورغباتها التي تصطرع مع عوائقها الذاتية وعوائق المجتمع. هذه البداية - من حيث هي موقع يبدأ به خطاب الرواية - تُمثّل - كما هي بداية كل خطاب - أهمية بنيوية ؛ لأن الافتتاح - فيما يقول رولان بارت - منطقة خطرة في الخطاب ، وفعل عسير. إنه الخروج من الصمت ، ولا يوجد سبب للابتداء من هنا لا من هناك ؛ فالقول بِنْيَة لا نهائية ، والإحساس بلا نهائية القول هذه هو الحاضر في كل طقوس افتتاح القول. وإذا عدنا إلى البلاغة القديمة فسنجد أنها أولت المطالع اهتماماً ، من الوجهة التي تعمل البلاغة معرفياً في اتجاهها ، وهو انتقاء الكيفيات التي يبلغ بها البليغ مستوى التأثير بما يريد في المخاطَب أو السامع. و(حسن الابتداء) أو (براعة الاستهلال) مثال -وليس حصراً - على ما عقدته البلاغة من أبواب لغرضها هذا. وفي الصناعتين لأبي هلال العسكري يرد - مثلاً - قوله: (والابتداء أول ما يقع في السمع من كلامك .. وإذا كان الابتداء حسناً بديعاً ، ومليحاً رشيقاً ، كان داعية إلى الاستماع لما يجيء بعده من الكلام). ومعنى ذلك أن الابتداء قيمة معنى وقيمة تشكيل ، وهو من ثم أساس مهم للتأشير على الدلالة وإنتاجها. ويأتي مبتدأ الرواية هنا بعد العنوان الذي يبدو أشبه بلغز لا يهتدي القارئ إلى فحواه ، ولا يسهل له قياد التأويل له. بل إن الإيحاءات الأولى للعنوان تتداعى إلى نسق بعيد عما يتضمنه خطاب الرواية. فالعنوان مفردتان يجمعهما العطف بالواو، بما تقتضيه الواو من تشريك وجمعية. وأول المفردتين (القوس) وثانيهما (الفراشة) والقوس نسق أشكال هندسية عملية أو جمالية تُنْصَب في الاحتفالات ، أو ترتبط بمظاهر الطقس كما في قوس الغمام ، ويؤدي مزدوجاً بتقابل الفتح والإغلاق وظيفة تأكيد أو حصر وتمييز .. في الكتابة ، وقد نذهب إلى نسق العدَّة الحربية وسلاح القتال أو الصيد عند القدامى ؛ لأن أحد عتاده القوس والسهام. وهذا مختلف عما يؤدي بنا إليه نسق الفراشة من تداعٍ إلى العشب والشجر والحقول والزهور ، بوصفها قريناً للفراشة ، هذا الكائن الجميل ، محلِّقاً وملوناً ومتهادياً في الجمال. وقد شعرتُ أول ما فكرت في دلالة هذا العنوان بصلة تداع باتجاه قصص الأطفال ، تلك التي تتآلف مع الحيوانات والطيور والحشرات ، وتركِّب دلالاتها في صراعات عالمها وبالتحاور معه. وهكذا يصبح العنوان دلالة عائمة ومفتوحة أمام المتلقي ، ويقضي 107 صفحات قبل أن يصل إلى القوس الذي يحيل عليه العنوان ، و290 صفحة قبل أن تأتي الفراشة. أما بداية الرواية فقد جاءت هكذا: (عندما قرأت الرسالة بسطرها الوحيد ، وخطها المرتبك ، اخترقتني قشعريرة باردة ، ونأيت عن نفسي لحد لم أعد أعرف معه كيف أقطع الذهول الذي أصابني ، وأعود إلى نفسي). إنها الظرف (عندما) الذي غدا متعلق حضور زماني لفعل قراءة المتكلم لرسالة من سطر واحد. ولم تفصح البداية عن مضمون الرسالة ، بل أفصحت عن قراءتها من حيث هي متعلق ظرف ، أي زمان، وما أفضت هذه القراءة إليه واقتضته من أفعال القشعريرة الباردة والنأي عن النفس والذهول. وقد مضت الرواية ، في مسافة ست صفحات ، تحكي تضاعيف ما اقتضته القراءة للرسالة وضخامته وعمق أثره المدوي والصادم في وجود الشخصية وشعورها وعلاقاتها ، قبل أن تصل بنا إلى مضمون الرسالة. وهي صفحات تؤشر إلى مأساة إنسانية أليمة استحالت إليها الشخصية ، حتى أصبح شخصاً آخر ، يستقبل الأشياء بنوع من اللا إحساس ؛ فيفقد أي أثر للألم أو للذة أو للجمال ، ويعجز تماماً عن إبلاغ شيء له علاقة بالإحساس ، ويتطور الأمر إلى فقدان الإحساس المادي ، حتى ليحس بأن جداراً قد ارتفع بينه وبين العالم ؛ إذ يصبح فاقداً بشكل كامل لحاسة الشم والتذوق ، وينقطع عن سماع الموسيقى ومشاهدة الأفلام وارتياد المعارض ، وتضيع منه امرأته .. إلخ! ولكنه يواصل - على علاته - حياته وعمله الصحفي وعلاقاته الإنسانية. وهذا يعني أهمية فحوى الرسالة ومضمونها، كما يعني - باستقراء ما أحدثته - أنها فحوى صاعقة وذات مضمون فاجع للراوي ، حتى ونحن لما نعرف بعد عما تتحدث. وقد يتيح لنا تأجيل مضمون الرسالة ومدلولها أن نقول إن لها مضموناً سحرياً طلسمياً متعالياً ، كما هي السحريات في الخرافات الشعبية. لكن نتيجة هذا وذاك هي توافر جاذبيةٍ ما تحيل على الميل إلى التعاطف مع الألم الإنساني ، أو على الإدهاش الذي تصنعه الصدمة والتحول ، في خرقهما للمتصل ورجِّهما السكون والرتابة. وهي جاذبية - من منظور جماليات الابتداء البلاغية - متأتية من مباشرة الذات المنشئة للرواية وضعها في مستهل علاقة تأليف القارئ ولفت انتباهه ، من أجل نجاعة مخططها السردي الذي يحتاج - أول ما يحتاج من الوجهة البلاغية - إلى متابعة متلقيه وإنصاته وتشوقه. لكنني أتصور أن البداية هكذا ذاتُ قَصْد إلى ترسيخ مضمون الرواية وتأصيله في بنيتها لتغدو البداية محور الرواية النصِّي الذي تتفرع منه أحداثها ، وتتعدد بما يعيدها إليه ويفرعها منه ، ويربط بينها وبينه ربط المعلولات بالعلل ، والنتائج بالمقدمات. فكأن مضمون الرسالة هنا ، بما أحدثه من صدمة وتحول للشخصية ، هو ما تريد الرواية أن تبلغه إلينا ، وأن تصدمنا به ، وخصوصاً أنها تروي بضمير الأنا الذي تُجَاوِز علاقته بما يروي وظيفة الراوي للرواية ، إلى المشاركة والمعايشة والشهادة ، وإلى الانخراط في قلب الأحداث وفي دائرة تشابكها. والأنا الراوي - دوماً - يتحول في القراءة إلى ضمير القارئ عابراً المسافة بين الأنا والأنت والهو ، وموحداً المروي على لسان من يقرأ بوصفه حالاًّ في محل مَنْ كتب أو مَنْ يروي. وهذا هو مدلول ما تعمله الضمائر التي تنبني عليها الروايات - فيما يراه ميشال بوتور - من إتاحة وضع الكلام في أفواه مجموعات بشرية ، وأن الضمير (أنا) يخفي وراءه الضميرين الآخرين (هو) و(أنت) ، ويجعل بينهما اتصالاً دائماً. ويأتي مضمون الرسالة ، حين يأتي ، بعيداً عن السحريات الخرافية والطلسمية ، ومكتظاً بالفجيعة كأشد ما تكون ، وبأدل ما تعني من صلة بالذات. إنه خبر مقتل الابن ، وهو الابن الوحيد ، وقد كان يتابع تكويناً لامعاً بإحدى أكبر المدارس الهندسية الفرنسية ، وحدث ذلك في أفغانستان ، عندما قرر أن يذهب إليها ويجاهد مع مجاهديها إلى أن يلقى الله. وقد لقيه فعلاً في الأيام الأولى ، وفي ظروف غامضة ، ولما يبلغ العشرين من عمره. وهذا بالطبع ليس نص الرسالة التي تحوي سطراً واحداً كما عرفنا منذ أول سطر في الرواية ، وإنما هو دلالتها التي تضمنها خبرها الذي لا يجاوز الإبلاغ عن مقتل الابن بدعوى الجهاد. أما الرسالة فقد وجدها في صباح يوم ما ، وهو يتأهب للخروج ، وقد سُرِّبت تحت الباب ، وتقول: (أبشر أبا ياسين ، لقد أكرمك الله بشهادة ابنك)! هكذا تصل الفجيعة إلى ذروتها ، ولكنها لا تبلغ هذه الذروة التي تؤول إلى تلك النتائج من دون أن نعرف أن الأب هنا يساري ، وقد تقلب من اليسارية المتطرفة عندما كان يعيش بألمانيا ، إلى يسارية مغربية منشقة عن الحزب الشيوعي ، واستقر أخيراً في حزب يساري معتدل ، وذاق في بعض المراحل ، في سبيل يساريته هذه ، مع زملائه السجن وأنواع النكال. وقد انخرط في العمل في جريدة مستقلة معروفة ، أما على المستوى الاجتماعي فهو ابن عائلة متوسطة ، وتميل إلى الثراء ، وأمه ألمانية ، تزوجها أبوه أثناء إقامته لمدة 20 عاماً في ألمانيا. وأول ما يلفتنا من خلال ما انتقته الرواية للتخييل من سيرة هو ما يرفع من مستوى الفجيعة ، فهي قتل ، والمقتول هو الابن ، والابن وحيد والديه. وفي مدى يضاعف هذه الفجيعة نلمح مسافة البعد المتعددة ، وما تولّده من تباين ومفارقة: بين فرنساوأفغانستان ، ودراسة الهندسة المعمارية والقتال ، والأب اليساري والأصولية الدينية ، والموقع الاجتماعي المتوسط ذي الثراء والتمرد عليه باتجاه طوبى المجاهدين في بؤسهم وشظافة عيشهم ! وهذا يوجه مسار الرواية إلى استبطان سؤال عن علة موت ياسين ؟ وهو سؤال أطلقه الأب فعلاً وهو يحدثنا عن الكيفية التي تكيفت بها مساحة الصدمة ومسافة الألم التي تعمقت عقله وضميره ووجدانه ، حين قال: (من اللحظة الأولى لمعرفتي بالخبر ملأتْ كياني فورة غضب عارمة منعتني من الألم والحزن ، ولو قدِّر لي أن ألتقي ياسين في تلك اللحظة لقتلته. لماذا يفعل بي هذا الشيء القبيح والساخر والمتجبر والمهين ؟! لماذا يدفعني في الهوة التي وقفت على شفيرها طوال حياتي ؟ ثم متى حصل ذلك ؟ متى نبتت تلك البذرة المسمومة ؟ قبل أن يولد ؟ أو بعد ذلك ؟ أيام كان طفلاً أو مراهقاً ، هل كان يلعب بيدين مضرجتين بالدماء ولم نكن نرى ذلك ، هل كنا نعيش ونحن نمشي خلف نعش بيننا ؟؟؟). هكذا تغدو الرواية سؤالاً عن سبب مقتل ياسين ، بقدر ما تغدو فجيعة به وعليه ! وهي هكذا تحيلنا على نسق الانتحار الاستشهادي الذي تُقْدِم عليه تنظيمات غير حكومية ومتفلتة من كل قانون لقتل الأبرياء في هجمات غادرة من أجل غايات سياسية غير واضحة أو متبلورة ، تحت دعوى الجهاد والشهادة وفضائهما الديني الإسلامي المتطرف ذي القداسة والتعالي. وهي الظاهرة التي عمّدت في اللغة العربية دلالة لفظة (الإرهاب) بمعنى اصطلاحي ذي مرجعية محددة لم تعرفه دلالتها من قبل. والأسئلة المطروحة في الرواية عن مقتل ياسين هي الأسئلة نفسها المطروحة فكرياً وثقافياً في مواجهة ظاهرة الإرهاب ، وخصوصاً بعد حادثة 11 سبتمبر 2001 ، التي حصد فيها تحطيم الإرهاب لبرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك آلافاً عدة من المدنيين الأبرياء ، وفتح مرحلة دموية للحرب معه ، شهدت فيها عواصم عربية وعالمية عشرات التفجيرات والاعتداءات الأليمة. ومنشأ الأسئلة هنا متولد مما يشبه استعصاء الظاهرة على الفهم ، ومفارقتها للعقلانية ، واحتكامها إلى معان ومعايير دينية متطرفة تمنح الشيخ الزعيم استبداداً مطلقاً وطواعية عمياء ، إلى الدرجة التي تفرغ الأتباع والمريدين - تقريباً - من كل ذاتية واستقلال. لكن روايتنا هذه ، التي صدرت في نهاية عقد الإرهاب الدامي ، لا تتجه إلى إنتاج إجابات تعلل الظاهرة أو تحللها ، وإنما تبدو حفية ، أكثر من أي شيء آخر ، ببذر الأسئلة ونثرها في اتجاهات مختلفة ، وهي لذلك لم ترتهن لموضوع الإرهاب ، وإن ظل مفتاح موضوعها وأساس محورها النصي.