هناك علاقة تجمع بين تصاعد الفساد وتصاعد سلطة التيار الديني ، في العالم الروائي الذي تصنعه (القوس والفراشة) لمحمد الأشعري. وإذا كان التيار الديني في الرواية هو المسؤول المباشر عن إفراز الإرهاب ، الذي جنَّد الشاب ياسين، ابن يوسف الفرسيوي الشخصية الأولى في الرواية وراويها ، وذلك في أثناء متابعته لدراسته العالية في فرنسا ، من دون أن يدري أبوه وأقرب الناس إليه ، فانتهى إلى حتفه في أفغانستان -كما رأينا في المقالين السابقين- فإن الفساد هو المستفيد ، وهو قرين الإرهاب في التولُّد من بروز التيار الديني المتطرف ، وتوليده ، في الوقت نفسه ، وتبادلهما الفعل والانفعال. ودلالة السرقات والرشوة واغتصاب الأراضي والعقارات والوظائف وفَرْض السلطة المستبدة هي دلالة الفساد التي لا تنفصل عما يرد في الرواية مَوْرد الحَيْرة والتعجب من هيمنة قضايا أخلاقية على الساحة الإعلامية ، لا علاقة لها بالسياسة ولا بتدبير المال العمومي ولا بالرشوة والامتيازات العشوائية والأغنياء الجدد ، بل فقط بالفضائح الجنسية: (دعارة قاصرين، زواج مثليين ، حفل تنكري للشواذ ، جرائم زنا المحارم ... إلخ !!). وهذه وتلك تقتضيان بروز التيار الديني ، بدعوى حمايته للأمانة والفضيلة ، لكن الحوار الذي تصنعه الرواية بين يوسف وأصدقائه ، يكشف عن الاقتران والتلاقح الذي يجمع الفساد والتطرف الديني والرذيلة ! يقول يوسف: (إن المستفيد الوحيد من هذه الإنجازات الأمنية سيكون هو التيار الديني ، وعند ذلك ستقع مراكش بكل كنوزها السحرية في كماشة الطالبان) !. فيجيبه صديقه بأن «التيار الذي سيستفيد فعلاً هو تيار البَزْنَسَة الذي نظَّم نفسه كقوة سياسية واجتماعية ستساوم بالمداخيل التي توفرها ، والشغل الذي تخلقه والرواج الذي تنشره ، والأجانب الذين تسعدهم ، على مقاعد مريحة في المشهد السياسي) ثم يضيف: (لا أحد يمكنه مُقاومة التيار الديني سوى هؤلاء ! في كل مدينة كبرى سيوجد زعيم جديد بهذا الوجه ، وإذا لم يوجد سيتم صنعه ، إلى أن يتم تعميم هذه السلعة المباركة على مجموع التراب الوطني). هكذا تتولَّد سلطة البَزْنَسَة التي تنطوي على الفساد بوصفها مقتضى للتصدي للتيار الديني الذي يثير الفزع بعلاقته بالإرهاب ، لكن هذا الاقتضاء يعمل في الجهتين بالضرورة ، فمن دون الخوف من قبضة التشدد لا مبرر للاستبداد ولا للقبضة الأمنية وكل ما يرتبط بهذا التمركز الذي يغدو منشأً للفساد. والبَزْنَسة هنا هي ممارسة تحيل البلد إلى تجارة ، والتجارة هي انهمام بالكسب ، وهو كسب يؤول إلى قلة –مهما كثروا- من المتنفذين والمستفيدين. وهذا يحيلنا على تاريخ التوظيف السياسي والاقتصادي للدين في العصور الوسطى ، حيث تحالف القصر مع الكنيسة ، والسلطان مع الفقيه ، فمن دون تسلط روحي لا تسلط دنيوي. وهذا هو مكمن التعالق الذي يغدو فيه التسلط الديني وجهاً آخر للتسلط الإقطاعي ، ويغدو فيه الدين واسطة التسلط والاستعباد. صحيح ، هنا ، أن سلطة البَزْنَسة تبدو –على عكس العصور الوسطى- مصداً للتشدد الديني وهروباً منه ، ولكنها في الحقيقة لا تنشأ من دونه. ومن الواضح أن الرواية تريد التأشير بوضوح على هذين الطرفين ، البَزْنَسة والتشدد الديني ، اللذين يجتمعان على الفتك بالبلد ونشر غمامة اليأس الكظيمة. ولهذا غدا عنوانها إحالة عليهما ، فهما القوس والفراشة اللذان يبدوان لغزاً في عنوان الرواية لا يستبين القارئ معناهما إلا بعد أن يصل إلى ذكرهما في ثنايا الرواية. والقوس هو الإشارة التي تحيل على التشدد الديني ، مُمَثَّلاً تحديداً في غوايته لياسين ، واستدراجه إلى حتفه في أفغانستان بذريعة الجهاد. أما الفراشة فهي إشارة إلى البَزْنَسة التي أشعلت في البلد حمى السرقات والاحتيال والفساد ، وأحالت الوجود إلى تجارة ومال وأعمال ، فكان بلداً –كما جاء على لسان يوسف- (يمشي دون أن يلتفت حتى للذين يسقطون من عرباته المفتوحة). وقد جاء القوس شكلاً هندسياً معمارياً ، أي وجوداً مادياً ملموساً للدلالة على مدلول إديولوجي. وهو فكرة ابتكرها ياسين وحدَّث بها أمه عندما أخذته معها قبل يوم من سفره ليرى أرضها التي تقع في جزء مهمل من الرباط على ضفة نهر أبي رقراق من المصب إلى مزبلة عكراش ، حيث يعيش حشد من الناس في أكواخ البؤس والتلوث. قالت أمه وهي تروي ما حدَّثها به: (توقفنا عند المصب وهناك عبَّر لي عن عدم اهتمامه بالأرض والمشاريع المحتملة بسببها ، وقال إنه لو كان بمقدوره أن يفعل شيئاً فإنه سيركب قوساً كبيراً مثل قوس قزح يجمع الضفتين ، قوساً ضخماً غير منتظم ، لا أثر فيه لأي تماثل ، قوساً يفوق في علوِّه قصبة الأوداية. تبدأ قاعدته الأولى في ذراع المصب بالرباط ، ثم يعلو منها إلى أعلى نقطة في مساره ، قبل أن ينزل صوب قاعدته الثانية على الضفة المقابلة. قوس من الفولاذ ، مصبوغ بالأزرق ، كأنه خيط ماء يلعب فوق المحيط). ترى ما وظيفة القوس ؟ ما دلالته ؟ وما أهميته ؟ هنا نبدو أمام معنى شعري ورمزي لم يفصح الشاعر فيه عن قصده! يقول ياسين –في أحد ظهوراته الخيالية لأبيه- مخاطباً إياه في شأن القوس: (لا علاقة إطلاقاً بين مشاريعي ومشاريعك هل تفهم ؟!) ويقول: (القوس .. يمكن أن يكسر الحساب الصارم للربح والخسارة ، يمكن أن يُخْرِج المدينة من نسق العمران البحت إلى نسق الخيال البحت). أما فاطمة صديقة يوسف والأسرة ، فقد التمعت عيناها لسماع المشروع ، وأخذت تفكر فيه باهتمام ، وقالت: (إن إنجاز القوس سيدخل مدننا في تجربة جديدة ربما تفتح ثغرة في التقليد الجاثم على صدورنا). وراحوا –فيما يقول يوسف- يخططون للقوس ، ويؤسسون الجمعية التي ستتكلف به ، ويحددون مكاتب الدراسات التي سيستعينون بها ، والجهات التي سيطرقون أبوابها. وتنتهي فكرة القوس ، وتتكشف دلالته التي عيَّنتها له الرواية ، في دعوة الوكالة لجمعية القوس إلى اجتماع حول الموضوع. فقد فرحوا لذلك ، على نحو ما عبّر يوسف ، وقدَّمت فاطمة بوصفها رئيسة الجمعية ، عناصر المشروع ، وفلسفته ، وأبعاده الفنية والإنسانية ، ثم تصوراً مدعوماً بدراسة تقنية. وعند نهاية عرضها أمام مجموعة من المديرين والمهندسين جرى تبادل بطيء لابتسامات مترددة قبل أن ينفجر الجميع في ضحك صاخب. وقد حاولنا –يقول يوسف- عدة مرات أن نتدخل لاستئناف الحديث فكان الضحك يخبو قليلاً ، حتى تصدر عن أحدنا كلمة أو كلمتان فيعود بأكثر مما كان عليه. لذلك –يقول يوسف- اضطررنا إلى التنازل عن الحديث نهائياً ، وبقينا نتابع هؤلاء الأشخاص المرموقين ، المتفوقين في كل شيء ، والأرقى من كل بشر الدنيا ، يتبادلون المناديل الورقية والقهقهات المكتومة أو المنفجرة. وينظرون إلينا من حين لآخر ، معتذرين بإشارات غير مكتملة ، كأنهم أيضاً يلوموننا على هذا الوضع المحرج الذي أوصلناهم إليه). إن الضحك هنا يكشف عن عبثية فكرة القوس ، أو مشروعه ، وهو ضحك صادر عن المفارقة بين مقدار الجدية التي توليها الجمعية للمشروع من جهة ، وحجم الإنفاق الباهظ الذي يقتضيه ، ووظيفة اللعب والخيالية التي تفلسف مقصده. وتزداد دلالة الضحك عمقاً بوصف ما حدث لفاطمة من صدمة ، فقد بقيت متأثرة بما جرى في هذه الجلسة لعدة أسابيع ، وكانت تقول إن ما صدمها في النهاية هو حجم السلطة التي يملكها هؤلاء الناس. وقد نقول إن السلطة هنا هي سلطة ذرائعية ، أو واقعية ، وقد نحيلها على العلم والحساب والمادية ، ولكنها في كل ذلك ، وفي مجموعه ، تقع في قبالة الفكرة التي يعبر عنها القوس ، وفي الضد منها ، تلك الفكرة التي تشبه معالجة الجوع بشم الورود ، أو اجتثاث الفقر بقراءة الشعر !. وهي الفكرة التي تقفز على الواقع وتعلو عليه تماماً كما هو شكل قوس ياسين. ولم يختلف ما صنعه ياسين –بعد ذلك- من انسياق إلى حتفه ، عن هذا العبث ، فكأن القوس –إذن- يجاوز الإشارة إلى التشدد الديني في صلته بالإرهاب ، إلى وصفه والتعريف له بالعدمية والعبث. أما الفراشة فهي عمارة المحامي أحمد مجد ، صديق يوسف ، الذي فاجأه بزواجه من امرأته بهية أم ياسين بعد طلاقها من يوسف. وهو –كما حدثنا عنه يوسف في مواضع متناثرة في الرواية- من المنتمين إلى اليسار الجديد ، وقد سُجِن ، وخرج من السجن ليعمل في المحاماة ثم أسس مقاولة سرعان ما كبرت وتوسعت. ويصفه يوسف بالقدرة على الجمع بين المتناقضات (كان ينتقل بسلاسة كاملة من الصلاة في ضريح سيدي بلعباس ، إلى السهرة في ملهى الباشا دون أن يشكل ذلك أي انفصام في شخصيته المتماسكة دوماً والهشة على الدوام). كما وصفه بأنه (صديق أوساط عليا). وكانت هذه العمارة –فيما يروي يوسف عنه- عمارة حياته ، وهي مبنى ضخم جنب الشارع الرئيسي الجديد ، حيث يفترض أن لا تزيد الأبنية عن أربعة طوابق ، لكن أحمد مجد –فيما يرويه يوسف دائماً- خاض حربا ضروساً من أجل الوصول إلى تسعة طوابق. وجاء اسمها من هندستها الخارجية فقد كانت بهيئة فراشة محلِّقة ، وتحوي ملهى ومطاعم وقاعة حفلات ومحلات تجارية ، بالإضافة إلى شقق فخمة ، يسكنها أثرياء الخليج وصانع عطور فرنسي شهير ، وليس في الموضوع مغربي واحد !. ولا تنتهي دلالة الفراشة دون أن تعلمنا الرواية بحفل افتتاحها الباذخ ، ثم بالسهرة التي دعاهم أحمد مجد إليها في شقة صانع العطور الفرنسي ، فهناك يشاهدون معرضاً لتحف مختلفة ونادرة ، وتكون المفاجأة أن يرى يوسف وفاطمة وليلى تمثال باخوس الروماني ، الذي ضاع من فندق الجد الفرسيوي ، وينتهي تسجيل محضر للشرطة بإجابتها في اليوم التالي أنه لا توجد تحفة رومانية مفقودة ، وأنهم لن يعاقبوا بتهمة البلاغ الكاذب ، لأنه لا يوجد شكوى ضدهم !. الفراشة –إذن- هي دلالة البَزْنَسَة التي تضعها الرواية في مقابل دلالة القوس ، بما تحيل عليه من دلالة مادية وذرائعية ، وبما تنطوي عليه من دلائل الفساد والاحتيال. وليس صلة الفراشة بأحمد مجد ، رجل اليسار ، سوى إمعان في الكشف عن مبلغ التهدُّم والتزوير الذي احتوى القيم والمثاليات. وتقف الرواية هنا الموقف عينه الذي تقفه هناك ، وذلك بالإدانة للموت والعدمية اللذين يمتدان من موت ياسين إلى سرقة باخوس ، وإلى الفساد الذي احتوى الحياة فأفقدها الصدق والإنسانية والوطنية. وهو موقف تمثَّل في التبئير على يوسف ، بما صنعته له الرواية من موقف ومن عقلية ، وبما اختارته له من مهنة في الصحافة التي لا قيمة لها من دون أن تتحلى بالصدقية والضمير وبالانحياز للعدالة والتنوير (يمكن –من هذا المنظور- ملاحظة كمية التحقيقات الصحفية والمقالات والأخبار المنثورة) وكانت السخرية وجهاً بارزاً في صناعة موقف الرواية ، من خلال عديد المفارقات والترديات ، كما هو الحال –مثلاً- في تفجير موجة الضحك العارم على مشروع القوس ، أو ما ينتهي إليه حوار جاد ومتخوف على مصير البلد في الانتخابات، بين يوسف وأصدقائه ، فقد قال يوسف: (عندما حلَّ منتصف الليل ذهبنا على استحياء لنتفرج في أحد فنادق المدينة على مخنث مشهور من الدارالبيضاء جاء لإحياء حفلات رقص شرقي بمراكش وسط اهتمام جماهيري كاسح ، لم يظهر له أثر إطلاقاً في الصحافة). وهذا الموقف الساخر بتضافره مع مدلول الإدانة الذي تقفه الرواية تجاه المجتمع ، هو ما تعمِّقه نهاية الرواية الفاجعة. فالنهاية هنا مضفورة من حب يوسف لليلى زميلته في الصحافة ، وهو الذي ابتدأت الرواية بموت معنى الحب وانهياره في حياته ، إنه حب الآن عاصف وملموس ، بما للحب من دلالة إيروسية. ومن جهة أخرى يتعرف يوسف على رجل من ذوي التطرف الديني يَعِدُه بمقابلة صديق لياسين يجيبه عن السر الذي يستبطن أعماق الرواية ، لأنه سؤال يوسف الدائم ، عن سر موت ياسين وأسبابه. وتكون النهاية موت يوسف بتفجير يقترفه صديق ياسين الموعود ذلك ، الذي يتكشف لنا أنه الشاب عصام ربيب صديق يوسف ، وقد اختفى بطريقة غامضة من فترة ! وهي نهاية تصنع بها الرواية موتاً متجدداً ، ابتدأت الرواية به وهاهي تنتهي به !