هنالك كبائر تنتشر بين المسلمين في هذا الزمن ، هي أشد فتكاً بهم من الذئب الجائع بالغنم ، وهم - غالباً - عنها غافلون. قطيعة الرحم من أسوأ الأمراض التي تصاب بها المجتمعات ، وهي في مجملها كبيرة من الكبائر التي توعّد الله سبحانه وتعالى مَنْ يرتكبها بالقطيعة والعذاب الأليم ، وبالإبعاد عن جنات النعيم ، فكيف إذا كانت هذه القطيعة مع الوالدين الذين قضى الله سبحانه وتعالى بطاعتهما بعد أن قضى بعبادته فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ؟ لا يكاد العقل السليم يستوعب ما يتناقل الناس من مشكلات المجتمع العربي المسلم والمتعلِّقة بعقوق الوالدين ، وهي مشكلاتٌ ذات وجوه متعدِّدة ، تبدأ من الإهمال ، والتهاون بشؤونهما ، وتنتهي بضربهما ، أو قتلهما - والعياذ بالله -. إنَّ سعادة الإنسان تكمن في استقرار نفسه ، وسلامة قلبه ، وانشراح صدره ، وحسن تعامله ، وصلاح نيِّته ، ويكون قربه من السعادة أو بعده عنها مرهوناً بقربه من هذه الصفات الحميدة أو بعده عنها ، ولا يكون الإنسان مرتبطاً بهذه الصفات ارتباطاً قوياً إلا إذا كان حَسَن العلاقة بربه ، طائعاً له عابداً ، راجعاً إليه تائباً ، فإذا كان كذلك أصبح عضواً صالحاً في المجتمع ، محبّاً للخير ، نافعاً لأهله ومجتمعه ، بارَّاً بوالديه مطيعاً لهما ، عطوفاً عليهما ، رفيقاً بأهله ، ساعياً إلى مصالحهم ، وبهذا يتكون المجتمع المسلم السويّ ، وتقوى الأواصر بين أفراده. عقوق الوالدين ، دليلٌ على نفسٍ مريضة منساقةٍ لهواها وشيطانها ، بعيدةٍ عن طاعة ربها ورضاه ، وهو علامة من علامات انحراف مزاج الإنسان ، وفساد فطرته ، واستسلام قلبه للهوى الذي تشعله فيه شياطين الإنس والجن. ولعلَّ من أسوأ المظاهر الموجودة في المجتمع - هذه الأيام - فيما يتعلَّق بعقوق الوالدين ، سكوت الناس من الأقارب والجيران عن العاقِّ ، وإهمالهم له ، وتركهم نصيحته وتوجيهه ، وكأن الأمر لا يعنيهم ، وهذا يدلُّ على خَلَلٍ في فهم مبدأ (النصيحة) بالمعروف من جانب ، ونُصْرة المظلوم من جانب آخر ، كما يدلُّ على ضعف إحساس الناس بخطورة هذه الكبائر من الذنوب على استقرار المجتمع كلِّه ، وترابط أفراده وأسره. عقوق الوالدين شَرٌّ مَحضٌ في الدنيا بما يترتب عليه من أحقاد وضغائن ، وتفكُّك أُسري خطير ، وفي الآخرة بما يترتب عليه من عقوبة كبيرة تَحْرم العاقَّ من دخول الجنَّة إذا مات وهو مُصِرٌّ على عقوقه. إنَّ عقوق الوالدين من أسوأ الذنوب وأخطرها على حياة الإنسان ، فهو من الذنوب التي يعاقب صاحبها في الدنيا قبل الآخرة ، يعاقب بما ينال نفسه من القلق والأرق ، ونكد العيش ، ومن عقوق الأولاد أو بعضهم عقوقاً قد يفوق عقوق الإنسان لوالديه ، وهو أمر مشاهد في حياة الناس لا سبيل إلى إنكاره أو تجاهُلِه. أرى أنَّ على الناس في أسرهم وأحيائهم ومدنهم مسؤولية كبيرة في محاربة هذه الكبيرة ، ومناصحة من يقع فيها ، وعدم التهاون في الإنكار على أصحابها ، وهذا يحتاج إلى تكاتف وتعاون ، حتى يكون أثره قوياً عند المرضى بالعقوق. ولعل مما يؤسف له ما يحدث من تهاون عند الناس في هذا الشَّأن ، فقد حدث كثيراً في مجتمعنا بصورة تدعو إلى القلق على استقرار حياة الناس ، كما تدعو إلى الخوف من عقاب الله عزَّ وجلَّ على العاقِّ نفسه ، وعلى الذين يسكتون عن عقوقه من أهله وجماعته وجيرانه وقبيلته. أذكر أحد الإخوة حاول أن يستنهض همَّة بعض جماعة المسجد في حيِّه الذي يسكن فيه للوقوف صفاً واحداً في وجهِ عاقٍّ لوالدته ، صارت قصص عقوقه لها مشهودة معروفة عند أهل الحيِّ ، حاول ذلك الأخ أن يستنهض همَّة الناس ليكون تأثيرهم في مناصحة العاقِّ أكبر وأعمق ، ولكنهم تقاعسوا بحجَّة أنه رجل عاقل يعرف أنَّ العقوق حرام ، وأنهم لا يحبِّون التدخُّل في شؤون الآخرين ، حتى لو كان بالنصيحة والتوجيه ، وهما أقَلُّ ما يجب على الجار نحو جاره. إن من الخسران المبين أنْ يدرك الإنسان أبويه أو أحدهما ثم لا يكونان سبباً في دخوله الجنة - نسأل الله السلامة -. إشارة: (رَغِمَ أَنفُ امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة).