كثيرًا ما كتبتُ في هذه الزّاوية حول المقولات المكرورة في عوالم الفكر والدّعوة والوعظ ، وكثيرًا ما تتبرّم النّفس من هذا التّكرار حدّ الغثيان ، ويسفّ حدّ الاستنكار. إننّي أذكر جيدًا ما سبق وأنْ قلتُ به حينما يطلُّ علينا البعض بين الفينة والأخرى بمقولات مكرورة أو معادة ، ويصدر من خلالها رأيه مسقطًا علينا وجوب الاعتقاد به، ظنًّا بخبال الأمّة ممّن يحسبهم من الدّهماء والرّعاع ، حتّى استحال الأمر في حكم المسلّم به والمخوّل عليه ، فانسحب هذا الإسقاط بفعل الاستكانة والكسل على مَن يُوصفون بالعقلاء والمفكرين وأولى الألباب. إنّ التّمرّد في عالم الفكر صفةٌ محمودةٌ تنتج في نهاية المطاف رؤية خلّاقة مختلفة ، كما أنّ الخروج من عباءة المكرور والمعاد يصنع نفسًا توّاقة لا تقبل الإسقاط ، ولا تستكين للقول المزخرف ، وما يصحبه من محسّنات كدين بعض دعاتنا ووعاظنا. فهل أخطأت حينما قلتُ سابقًا: (إننّي أرى في الأفق أكوامًا من المغفّلين ممّن لا يحسن الاستقبال ؛ ناهيك عن إعمال الفكر ، فغابت عنّا مساحات من الأفكار ، وتساقطت من حولنا حمم الجهل ، فأصبحنا رهن ثلّة من المُخَدِّرِين ، وهم يسقطون علينا ما اتّفق من زخرف القول كأنّنا حمر مستنفرة فرت من قسورة ؟). رحم الله أبا حامد الغزالي رحمة واسعة ، حيث يقول: (ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ ، قبل بلوغ العشرين إلى الآن ، وقد أناف السن على الخمسين ، أقتحم لجّة هذا البحر العميق ، وأخوض غمرته خوض الجسور ، لا خوض الجبان الحذور ، أتوغّل في كل مظلمة ، وأتهجّم على كل مشكلة وأتقحّم كلّ ورطة، وأتفحّص عن عقيدة كل فرقة ، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأميّز بين محق ومبطل ، ومتسنن ومبتدع ، لا أغادر باطنيًّا إلاّ وأحب أن أطّلع على بطانته ، ولا ظاهريًّا إلاّ وأريد أن أعلم حاصل ظهارته ، ولا فلسفيًّا إلاّ وأقصد الوقوف على كنه فلسفته ، ولا متكلّمًا إلاّ وأجتهد في الاطّلاع على غاية كلامه ومجادلته ، ولا صوفيًّا إلاّ وأحرصُ على العثور على سر صفوته ، ولا متعبّدًا إلاّ وأترصدُ ما يرجع إليه حاصل عبادته ، ولا زنديقًا إلاّ وأتحسّسُ وراءه للتّنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته ، وقد كان التّعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أوّل عمري ، وريعان شبابي غريزة وفطرة من الله ، وضعت في جبلّتي لا باختياري وحيلتي) . ويقول -أيضًا- بعد نقده الشّديد للتّقليد ودعوته إلى الاستقلال في النّظر: (ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلاّ ما يشكّك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطّلب ، فناهيك به نفعًا ، إذ الشّكوك هو الموصلة إلى الحقّ ، ومَن لمْ يشك لم ينظر ، ومَن لمْ ينظر لم يبصر ، ومَن لمْ يبصر بقي في عمىً والضلال) . يقول الرّاغب الأصفاني: (للإنسان فضل على الحيوانات كلّها ، في نفسه وجسمه ، أمّا فضله في نفسه فبالقوة المفكّرة التي بها العلم والعقل والحكمة والرّأي ، فإنّ البهائم وإن كان كلها يحسّ وبعضها يتخيّل ، فليس لها فكرة ، ولا رؤية ، ولا استنباط المجهول بالمعلوم ، ولا تعرف علل الأشياء ولا أسبابها ، وليس في قوتها تعلّم الصّناعات الفكريّة) . إذن إنّه والفكر حينما يدعو إلى التمرّد ؛ لأن العقل جوهرة ثمينة ، وهو بهذه المعاني ميزة تميّز بها الإنسان عن الحيوانات كلّها ، ومسؤولية تقوده إلى ما خُلق من أجله ، وهو واسطة بين النّفس التي تتّصل بالغرائز ، وبين الرّوح التي تتصل بعالم البقاء وسر الوجود الدّائم الذي علمه عند الله ، وكأنّا بالعقل أداة ذات حدين ، حدّ يدفعه إلى الاستسلام والتّبعية والإملاء ، وحدّ آخر يدفعه إلى إعماله ؛ خروجًا به من دائرة الاستسلام والتّبعية والإملاء.