حين ناظر أبو الوليد الباجي ابن حزم قال الباجي: أنا أعظم منك همة في طلب العلم ؛ لأنك طلبته وأنت معان عليه ، تسهر بمشكاة الذهب ، وطلبته وأنا أسهر على قنديل حارس السوق ! فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك وليس لك ، لأنك طلبت العلم في تلك الحال الرثة رجاء تبديلها بمثل حالي ، وأنا طلبته في الحال التي تعلمها من السعة والغنى ، فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة . وكانت حجة ابن حزم أقوى وأفلج . يتحدث العلماء عادة عن تأثر الإنسان بأحد شيئين: أولهما: العامل الوراثي البيولوجي ، فالجينوم يحتوي على الكثير من الأسرار والحروف التي تشكل بإذن الله حدقة العين ولون البشرة ، ولون الشعر والطول ومجموعة من الصفات الجسدية ، كما يقرر العلماء أن ما بين 40 50 % من ذكاء الإنسان هو وراثي ، ولا بد أن للوراثة تأثيرا كبيرا في الطبائع والأخلاق والصفات كالتسامح أو الشدة أو الغضب ، وكذلك مجموعة الخصائص النفسية . قد ينزع المرء لأبيه ، أو لأمه ، أو يأخذ من هذه الفصيلة وتلك ؛ ليصبح هو مزيجا جديدا مختلفا عن والديه ، ومتأثرا بهما في الوقت ذاته (صنع الله الذي أتقن كل شيء) (النمل: من الآية 88). ويبقى السؤال عن الإنسان الأول قبل هذا التسلسل التاريخي لبني الإنسان ...؛ هل كانت جيناته خالية من أي قرارات مسبقة فيما من شأنه أن يتغير ؟ ينظر بعض الناس إلى هذه المعلومة المتعلقة بتأثير الوالدين وكأنها جبرية لازمة ، وحتمية قائمة لا مخلص منها ولا مفر ، وهو هنا يجد عذرا عما يسوؤه من السمات والخصائص والعيوب ! ولسان حاله ما يقول أبو العلاء: هذا جناه أبي علي=وما جنيت على أحد! وهذه قدرية عمياء ، تمليها الجهالة ويسوغها العجز ، وتزينها نظريات تسمح للإنسان بألوان من الانحراف والشذوذ تحت ذريعة الحتمية الوراثية ، أو تأثير الخلايا والهرمونات . وأوسع من ذلك نظرية فرويد الذي كانت أفكاره فيما يسمى (عقدة أوديب) والدافع الجنسي واللاوعي تناقش في كل مكان في منتصف القرن العشرين . ثم آلت إلى أن تصبح (هامشا) في دفتر المعرفة لدى الأطباء والعلماء والمختصين ، ويتبين أن ولع بعض المفتونين بها كان نتيجة عقدة النقص ، وليس البحث العلمي النزيه . المؤثر الثاني: هو الجانب البيئي الاجتماعي ، كتأثير الأسرة والشارع والأصدقاء والمدرسة ووسائل الإعلام وقنوات الاتصال . من المتفق عليه لدى جميع علماء النفس والاجتماع والتربية أن ثم تأثيرا كبيرا لهذه الأوعية على الإنسان ، أكان تأثيرا في ذات الاتجاه بخضوع الإنسان لمطالبها وإلحاحاتها وهو الأعم الأغلب ، أو كان تأثيرا عكسيا بردة الفعل لدى فئة قليلة ترفض سطوة المجتمع وتسير في خط مضاد لأسبابها الخاصة بها . الغريب حقا أن هؤلاء العلماء يعترفون بالعجز عن الفصل بين الأشياء التي هي من تأثير الوراثة ، والأشياء التي هي من تأثير المجتمع ، ويؤمنون بالتداخل الشديد بينها بحيث يبدو الفصل بينها نوعا من التزييف أو ضربا من المحال . وحتى الجواب عن سؤال: أيها أكثر تأثيرا: الموروث أو البيئة .. هذا غير معروف على وجه الدقة . لا يبدي العلماء عناية جادة بمعنى ثالث هو عندي أهم ، ألا وهو تأثير الإنسان على نفسه ، فالإنسان كائن واع ، ومنذ سني الطفولة الأولى يلتقط كلمة (أنا) ويبدأ بالإحساس بأنه شيء آخر غير والديه وغير إخوانه ، بخلاف الحيوانات والطيور التي لا تعقل هذا المعنى . تطوير هذا الوعي ليصبح قدرة على قراءة النفس ، ومعرفة دوافعها فيما تفعل ، ومعرفة أخطائها وعيوبها الجوهرية ، والرقي بأدائها من الحسن إلى الأحسن بعيدا عن التعذير والخداع هو معنى عظيم . (بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره) (القيامة:15،14). قال سعيد بن جبير: شاهد على نفسه ولو اعتذر . وقال مجاهد: ولو جادل عنها ، فهو بصيرة عليها . حتى معرفة العيوب الموروثة من الوالدين أو الأسرة ، أو العيوب المتكونة بسبب التربية وتأثير المدرسة أو الأصدقاء أو ظروف الطفولة هل هذا من تأثير التربية ؟ نعم! رب تربية يكون من حسناتها حفز الإنسان على أن يعرف ذاته ، وأن ينشغل بها ويصنع الأحافير ويكتشف الكهوف والمغارات والسراديب في أطوائها ، ليس هذا فقط، بل ويعمل بجد وصبر ودأب على ترميمها وإصلاحها أو تحجيم نفوذها وتأثيرها على شخصيته وحياته . الفارق هو بين من يلتقط هذه الفكرة (فكرة عالج نفسك بنفسك) ، وقد يجدها عند والده أو مدرسه أو زميله ، أو يقرؤها في كتاب أو يسمعها في برنامج ، ثم يعمل على تحويلها إلى عادة سلوكية يمارسها بانتظام ، ليس في التصرفات العملية فحسب ، بل وفي الإحساسات العاطفية والتي يمليها القلب ، والأحكام العلمية التي يقررها العقل . فالقلب والمخ هي أعضاء يستطيع المرء أن يتحكم فيها بدرجة ما ، وهو مسؤول عنها . وحين يمارسها بانتظام فهذا يعني أن تتحول مع الوقت والمداومة واليقظة إلى مؤثر أكبر في شخصيته . ستدين له نفسه وتستسلم في أشياء ، وستظل جيوب مقاومة ورفض في أشياء ، وسيعجز عن معالجة نمط مستعص من العيوب ، فالأشياء التي لا يحبها في نفسه عليه أن يغيرها ، وحين يعجز عن تغييرها فعليه أن يحاول ، وحين يعجز عن المحاولة عليه أن يتكيف معها . حين يتحقق لك نجاح عليك أن تقرأ على ملامحه بصمات كثيرة شاركتك في صناعته ، والدك ، زوجتك ، أصدقاؤك ، رئيسك ، القريب الذي تبنى المشروع ودعمه .. إلى آخر القائمة التي تتسع وتطول أو تقصر ، حسب طبيعتك النفسية ، وحسب قدرتك على التجرد من الأنانية وحظ النفس ، لتمنح الآخرين دورهم وتثني على إنجازهم . وفي سياق الذم ذكر الله تعالى قول قارون: (إنما أوتيته على علم عندي) (القصص: من الآية78) ، حتى خصومك ساعدوك على النجاح من حيث لم تتوقع . عداتي لهم فضل علي ومنة=فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها=وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا هل من العدل أن ينسب الإنسان النجاح لنفسه ومواهبه وسهره ، ليثبت الفشل لمجتمعه وبيئته حين يتحدث عن العقبات التي واجهها في بداية حياته ، حتى نجد كثيرا من الكاتبين أو المتحدثين عن سيرهم الذاتية يبالغون في رسم التحدي الذي لقوه ، وما أبرىء نفسي أن يكون القلم تجاوز بشيء من هذا في (طفولة القلب)! فرق ما بين الواعي والمتخلف أن الواعي يدرك أن النجاح ليس صفة لازمة للإنسان ، والذي نجح في حفر قناة السويس فشل في حفر قناة بنما ، والنجاح يكون حتى في التعامل مع الفشل .. فهنا لدينا القدرة على التعبير ب (الفشل الناجح) أي: الذي يمنح المرء دروسا وخبرة ، ويزيده صبرا وإصرارا ، ويكشف له جوانب خلل في ذاته ، ليعيد المحاولة ويحقق الهدف . والنجاح ليس سمة حتمية دائمة ، وإنما هو نتيجة ؛ ولذا فعلى المرء أن يكون قادرا على استيعاب الفشل والإخفاق كقدرته على استيعاب النجاح . وربما كان الفشل سببا إلى النجاح أو كان النجاح سببا إلى الفشل . وربما كان مكروه النفوس إلى=محبوبها سببا ما مثله سبب يقظة الفرد عامل جوهري في النجاح ، نجاح العلاقة الزوجية ، أو الصداقة ، أو المشروع التجاري أو الثقافي ، أو النهضوي ، وهذا إيمان بالفرد القادر على التغيير (لا تكلف إلا نفسك) (النساء: من الآية 84). والمجتمع والبيئة هي الحاضن لهذا النجاح ، ومن صميمها وجد الدفع والتحفيز ، أكان إيجابيا بصناعة المناخات الداعمة للإبداع والتألق والبحث والتطوير ، أو حتى سلبيا بصناعة التحدي الذي يستفز كوامن الإبداع ويحركها . ليس من العدل أن تتحدث عن البيئة بلغة الازدراء والتنقص أو التسفيه المطلق ، أو الأحكام التعميمية (الناس منافقون ، أغبياء ، جهلة ، ماديون .. إلخ) . أو أن تردد مع (الحريري) ؟ قوله: لا تغترر ببني الزمان ولا تقل=عند الشدائد: لي أخ ونديم جربتهم فإذا المعاقر عاقر=والآل آل والحميم حميم! الحميم الأول: القريب ، والحميم الثاني: هو الماء الشديد الحرارة .. ولهذا الحرف تعليق قادم بإذن الله .