تتوالى موضوعات رواية (روائح المدينة) لحسين الواد ، معدودة على فصولها ، من رائحة الجامع القديم في أول فصولها ، إلى رائحة السبخة الجنوبية في آخرها ، وبينهما روائح خنادق معاصر الزيتون ، وروائح سوق المدينة الأسبوعي ، والقبور ، والماخور ، وحوانيت نسيج الأسل والحلفاء ، وأفران حرق الفخار والآجر ، والنفايات والفضلات الموصولة بروائح أجزاء الدور المختلفة ، والنساء ، والذكاء ، والحمامات ، وحارة اليهود ، والنكاح وصناعة التجميل ، وروائح الحبس . وينفسح مجال السرد تجاه كل موضوع ليستوعب روائح أخرى على سبيل الاتصال بالمكان أو الزمان والتداعي والتسبيب ، كالحديث -مثلاً- عن رائحة الهيعة الأولى ضد دولة الاستعمار والحماية التي انطلقت من سوق المدينة ، وكانت روائحه عند أهل المدينة سبباً في جميع ما حصل فيها ، لكن رائحة الهيعة ما إن فاحت في أرجاء المدينة حتى غلبت على الروائح المتلاطمة فيها يوم السوق الأسبوعي. والنظرة الإجمالية على الروائح الموصوفة في الرواية ، تدلنا على أنها ليست روائح بالمعنى الحسي فقط ، بل هناك روائح بالمعنى المجازي ، مثل روائح الهيعة على دولة الاستعمار ، وروائح الإرغام والإذلال والاستعباد والوضاعة والمهانة والصغار والاحتقار ، وروائح ذكاء أهل المدينة ، وروائح التنوع الاجتماعي كالحديث عن حارة اليهود . وجملة الروائح وتفاصيلها تخلو من الروائح الطبيعية ، فلا رائحة لواد أو غابة أو بحر ، وإنما هي روائح ثقافية اجتماعية صنعها الإنسان بقصده وإرادته ، وباضطراره ، وبعاداته وتقاليده وأوضاعه الاجتماعية وتصوراته وبغير وعيه . وهي روائح الحياة في حاجاتها المادية والروحية ، في آلامها وآمالها ، في القوة والضعف ، وفي الحرب والسلام ، وفي الاحتكاك بالآخر جماعات وأفراداً . وتبرز هنا مسافة التغير في دلالات الروائح في إطار العلاقة مع السلطة ، سلطة الثقافة والسلطة الزمنية ، تلك المسافة التي اقتضت الروائح موضوعاً كما اقتضت التاريخ أداة لسردها ، تتمرأى فيه بقدر ما تدلل عليه ، ويتجسد فيها بقدر ما يحكيها . هكذا أصبحت فصول الرواية متشاركة في البدء من واقع الروائح ، ثم في تعقُّب تغيُّرِها بتحولات السلطة والمجتمع . فالجامع القديم ، وهو موضوع روائح الفصل الأول ، يعبق بروائح الميضأة النتنة . وتاريخ هذا الجامع قديم فقد كان قبل أن تطأ المدينة دولة البايات (ولاة الدولة العثمانية) وترافق مع نشأة المدينة ، ولا يعرف أهل المدينة عن بنائه شيئاً ثابتاً ، وذلك بخلاف الجوامع الثلاثة الأخرى في المدينة التي يعرف أهل المدينة متى بنيت ومن بناها ، فأولها بناه ابن من أبناء البايات ، والثاني بناه الاستعمار ، والثالث بنته دولة الاستقلال من حر مال الرئيس . وإذا كان الجامع القديم مميَّزاً برائحته ، فإن الجوامع الأخرى بلا رائحة ، ولهذا كان الجامع القديم موضع إجلال أهل المدينة ، وكانوا يتبركون برائحته ، فلو كانت الجوامع الأخرى تنفع (لكانت فيها روائح) . لكن الأحداث تمضي إلى ظاهرة الغلمان الملتحين ، في عهد دولة الاستقلال ، الذين يصرون على إصلاح الجامع القديم ، فيهدمونه ، ويعيدون بناءه ، وبذلك يتغير وينكره أهل المدينة ، فلم يعد قديماً ولم تعد به رائحة . هذه الدورة التأريخية السردية التي تبدأ بالرائحة وتنتهي بزوالها أو انحسارها أو تغيرها ، هي الدورة التي تتوالى في كل الفصول تقريباً . فالمدينة تفقد روائحها القديمة ، وتصبح بلا روائح أو تستحيل روائحها العتيقة تلك إلى روائح غريبة ، أو إلى روائح بلا روائح ، وهي وجهة تدخل بها المدينة إلى عصر المستورد والأجنبي والحديث ، الذي يترافق مع الأدلجة واجتياح الصناعي الآلي ، ومع طغيان الحس التجاري الرأسمالي ، وتشكل سلطة الاستبداد ، التي تتبادل الفعل والانفعال والوجود والعدم مع نمو الاحتكار وفساد الضمائر والنهب والتزوير والعقلية الخرافية ، وتزايد القمع والتحكم ومصادرة الحريات ، ومع تراجع القيم التي تألفت عليها المدينة في قديمها الذي تغدو روائحها المعبرة عنه احتشاداً ضد حاضرها . وكما اضمحلت رائحة الجامع القديم وانقطعت بعد هدمه وإعادة بنائه على يد الشبان الملتحين ، تتلاشى روائح خنادق الزيتون وتزول ، بإعلان دولة الاستقلال قرار التعاضد والتأميم ، وبيع الناس زياتينهم خوفاً من التأميم ، ثم تراجعها عن التأميم ، وظهور المعاصر الجديدة ، وإشاعة أوهام إضرار الزيت المحلي بالصحة ، والتصدير له ، واستيراد زيت أمريكي . والأمر نفسه يعتري روائح سوق المدينة الساحرة ، فقد بدأت تنحسر وتقل عندما جاءت دولة الاستقلال والسيادة ، وبدأ اليهود يرتبون أمرهم للرحيل ، وأخذ الصاغة الجدد في غلث الذهب بالفضة بالقصدير ، وظهر جشع الغش لدى الصاغة . ومن آخر دولة الاستقلال والسيادة تقلصت سوق الذهب ، فبدأت تغزوها جواهر مزيفة ، وأصبحت حارة اليهود التي لم يعد بها يهود تعج بالأولاد والبنات ، أبناء المدارس والمعاهد وعاملات مصانع التصدير والفنادق والعاطلين والعاطلات ، وفاحت بتلك المحلات روائح أخرى هي المخدرات . وتنشط حركة السياحة إلى المدينة ، فيتقاطر الأوربيون على السوق الأسبوعية ، ويفترش باعتها الأرض لبيع جماجم حيوانات ، وجلود حيات وثعابين ، وأدوية سحرية وأعشاباً نادرة وحروزاً ووصفات تتعلق بالباءة والإنجاب وطرد الشياطين وإبطال السحر وعلاج جميع الأدواء . ولم تصمد روائح الحُصُر ومنسوجات الأسل والحَلْفاء وحوانيتها الدائمة العتمة والرطوبة ، التي تطلق في المدينة روحاً عجائبياً من الأنس والبشاشة والانشراح . فقد بدأت دولة الاستقلال والسيادة تضيِّق على أصحاب المناسج بتسجيل مخالفات بلدية عليهم ، وأصبحت الحَلْفاء تُصدَّر عجيناً إلى المصانع الأوروبية ، وجَفَّفَت السدود ، لري ضيعات الأثرياء الجدد ، الأودية التي كان ينبت فيها الأسل ، وبدأت حوانيت النسيج توصد أبوابها ، وأخذت الزرابي والسجادات والأغشية والسلال وأشباه الحُصُر البلاستيكية تغزو الأسواق وتقتحم الدور . وإذا كانت روائح حرق الفخار والآجر التي تَهُب على المدينة من شمالها وجنوبها ، قد اختفت بشيوع أواني البلاستيك ، في عهد دولة الاستقلال ، فقد حل محلها حرق البلاستيك مخلوطاً بالزيوت المستعملة ، لإنتاج الفخاريات المصدَّرة إلى الخارج ، واستحال الدخان إلى وباء للمدينة . فقدان الروائح القديمة واستحالتها ينتهي في الرواية ، غير مرة ، إلى حنين حارق إليها ، وأحياناً يختلط هذا الحنين باهتمام بالروائح الجديدة التي أصبحت عاصفة (فلكل زمان رائحة ... المهم أن تكون ثمة أنوف قادرة على أن تشم) . لكن الرواية تصنع زمناً منحدراً باستمرار ، ودلالاته متوالية على الضيق ، والضعف ، والهزال ، والشكلانيات ، ولكن بما يشف من خلال لغة الراوي وبنية الرواية وعلاقاتها عن الغضب والاحتشاد بالأسى والسخرية المريرة . فالنساء لم يعد لهن الروائح التي كانوا يعهدونها في الأمهات والأخوات والقريبات ، وتغيرت أجسام النساء منذ جاءت دولة الاستقلال ، أصبحن صغيرات الأجسام دقيقات الخصور ممسوحات الأعجاز ، وصار الرجال إلى الفتور . إنها دلالات العجز وفقدان الخصوبة ، المترافقة مع تحولات الحياة منذ مجئ دولة الاستقلال ، وهي تحولات متصلة بما اعترى حياة الناس القديمة من تبدل . فقد بدأ السادة الجدد يتدربون على سلوك للسيادة اشتقوه من سلوك السادة الراحلين ، وظهر ذلك في الإقبال على اللباس الإفرنجي والطعام الأوروبي ، وفي ترميم الدور وتزويقها وتنظيم الحوانيت واقتناء الآثاث ، واتخذ التغيير أشكالاً مضحكة ، خلع كثير من المكتهلين وبعض المسنين الملابس المحلية ، ولبسوا البدلات وربطات العنق ، وحلقوا الشعور وفق تسريحات عصرية شبابية . أما اليهود الذين درج الراوي على المفاخرة بسكناهم لمدينته ، واتخذهم دليلاً على مدنيتها أمام مزاعم الأجوار النافية صفة المدينة عنها ، فقد رحلوا عنها ، وكان رحيلهم دليلاً متواصلاً لحكاية التحولات ، وتبدُّل الروائح . ولا ينفصل رحيل اليهود في رؤية الرواية عن تصاعد الاستبداد ، وهو التصاعد الذي يتبادل تغذية مرتدة مع إيديولوجيا التطرف العقائدي التي تؤشر عليها الرواية بمناشير تنظيمَيْن سريين ضد دولة الاستقلال يتشاركان الدعوة للعنف من منطلقين متعارضين تعارضاً حدياً -فيما بينهما ومع الدولة -: تنظيم (الشباب المحمدي) الذي يتهم الدولة بالكفر والعلمانية ونشر الفسوق وإبطال العمل بكلام الله وينعت العيش في ظلها ب (الجاهلية الجديدة) ويدعو إلى الجهاد . وتنظيم (العمل الماركسي اللينيني) الذي يرمي الدولة بالعمالة للأجنبي والتفريط في خيرات البلاد وتفقير المواطنين ويدعو إلى العنف الثوري ومقاومة الإمبريالية والرأسمالية والصهيونية والظلامية . والتنظيمان في دلالتهما هكذا على معارضة الدولة يحيلان على صفة الدولة ذاتها ، فالسلطة المستبدة دوماً تنتج معارضتها من جنسها. إن التغير الذي استعيرت الروائح لتمثيله في المدينة ، هو تغير من الشعبي والعفوي وأحياناً البدائي ، بما يشف عنه من حرية وتلقائية ، إلى نسق من السلطة نخبوي واستبدادي ، وإلى تحكم أفقد مجتمع المدينة روحه وذاتيته وحواريته التلقائية ، وطاقاته الإنتاجية . فالجامع القديم في وضعه الأول مثال للشعبية والتلقائية ، وهذا هو المقابل لما آلت إليه المدينة ، من بعد ، حين أخذت الدولة تعيِّن الأئمة دون التفات إلى مكانتهم العلمية ومنازلهم لدى الناس وأصبحت الخطب ترد مرقونة للتلاوة على المصلين ، وقس على ذلك غيره من تحولات المدينة . ويلفتنا في الرواية ذلك الحنين إلى الماضي وإلى الروائح التي يفتقدها أهل المدينة باستمرار ، وذلك على الرغم من دلالاتها على واقعٍ لا يقل إن لم يكن أشد مأساوية وبؤساً من الأزمنة التالية له . ويبدو ذلك جزءاً مما تنطوي عليه الرواية من سخرية حادة بالتاريخ الذي تدونه , ورغبة في التدليل على النكوص والتهاوي والانحدار ، وكأن انعدام الروائح وزوالها ولوج في الإبهام وفقدان للذاتية .