نحن جيل ولد من رحم المشاريع الفاسدة ، والأحلام الموؤودة .. لم ندخل في الأحلام الكبرى ، ولم نرَ أوطانا تتحرّر من الاستعمار أمامنا ، بل رأيناها وهي تهرم وتشيخ وتتآكل من الداخل. نحن جيل ولد على حافة الموت: أوطان تموت ، أفكار تموت ، شعر يموت ، نقد يموت ، وكلام يموت حين يتحوّل إلى عبارات مديح خاوية ، أو وعود كثيرة كاذبة .. كان لا بد لنا أن نعيش بموازاة الموت ، ألا نكترث للأحلام كثيرًا لأنها لن تؤدي إلا لمزيد من الكوابيس ، وألا نثق في الأوطان ، لأنّها عودتنا أن تسلبنا أكثر ممّا تعطينا. كنا نقرأ الشابي: (إذا الشعب يوما أراد الحياة ...) فنسخر كثيرًا من قدرة الشعر على صناعة الأوهام ، ومن قدرة الشعراء على تزييف الكلمات .. نحن من جيل بنى حياته على ما هو متاح لا على ما هو ممكن ، وصمم حياته على جملة من ردود الأفعال ، لا الأفعال .. لكننا فجأة استيقظنا على حلم أشبه بالزلزال!! ربما ليس هناك أبلغ من الكلمات الشعبية البسيطة التي قالها الموسيقار عمار الشريعي في وصف ما حدث ، في خليط من الدموع والندم وعودة الروح: (أنا من أسبوعين كنت بأقول للعيال دي: لولو وسوسو وفوفو .. وكنت ظالمهم ، ما كنتش متصور إنهم ممكن يعملوا اللي عملوه ... ورّوني إنو إحنا كنا جيل خِرِع وخايب وضحينا بعمرنا كله أونطه ...) . استعاد الموسيقار الكفيف قدرته على الرؤية من جديد ، واستعدنا معه القدرة على الحياة ، والثقة بالشعر والأحلام والأغاني والكلمات حتى وإن قيلت بأسلوب شعبي بسيط . (وقف الخلقُ ينظرون جميعًا / كيف أبني قواعد المجد وحدي) لم نكن نمر بهذه القصيدة الأغنية إلا مرور الساخر الباكي. لم نفكر أن هذه الكلمات ستنزل يومًا من برجها اللغوي العاجي ، ومن لحنها البديع ، لتتجول في ميدان التحرير في قلب القاهرة .. لم يدر بخلدنا أن الخلق جميعًا سيعاودون الدخول إلى مدرسة مصر العظيمة ، ليتعلموا (لا في سالف الزمان ، بل في حاضره) القدرة على التحدي والصمود وإعادة الاعتبار للغة ، ليكون التحرير تحريرًا بالفعل ، لا مجرد اسم تائه في صحراء اللغة. تولد كالأحلام والقصائد والأغاني .. تولد لنغنّيها إلى آخر صرخة في حنجرة .. لنتماهى معها إلى أعلى قبضة ارتفعت لكي تقتطف قبضة من الهواء. تولد لتمدنا بروح جديدة .. بثقة في مستقبل لم نثق فيه يوما من قبل .. تلك هي الأوطان حين تولد من جديد!! .